جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد

تمرّ كل مدينة ومنطقة وحيّ بتجارب متشابهة فيما يخصّ انقطاع الكهرباء، لكنّها مختلفة من حيث التقنيات التي يستخدمها السكان لتأمين بديل. ففي غياب المسارات الرسمية التي خطّتها الدولة للحصول على الخدمات، تنشأ مسارات موازية، تحمل في تقاطعاتها الكثير من الاستغلال، ويصعب الوصول إليها لإفراطها في الاعتماد على علاقات القوة الموجودة –  ممّا يزيد من الإقصاءات الطبقية والمناطقية والطائفية والحزبية والجندرية وتلك التي تتعلّق بالأوضاع القانونية أو اختلاف الجنسيات- ولعدم وضوحها كونها غير علنية ولا يمكن معرفتها إلّا من خلال شبكة علاقات. نحاول فهم هذه التقنيات ومن ورائها ديناميكيات القوة التي تسمح لمجموعات وأفراد ببسط سلطتهم على منطقة أو أخرى. 

سنقوم من خلال هذا النص بسرد تجربة نسرين1تمّ تغيير أسماء الأحياء والأشخاص، وهي من ساكنات منطقة رأس بيروت منذ أكثر من 20 عاماً، في محاولاتها فهم النظام الجديد الذي تمّ تركيبه في حيّها للتعويض عن غياب خدمة الكهرباء التي تؤمّنها الدولة، بهدف تأمين تغطية كهرباء شبه مقبولة لعائلتها وجيرانها في الحي. من خلال هذه التجربة، نرى أحد المسارات غير الرسمية لتأمين خدمة الكهرباء، بشكل لا يعبّر عن باقي الأحياء بالتأكيد، لكنه محاولة لتدوين هذا المسار ومقارنته مستقبلاً. 

خلال أول مرحلة من مراحل انقطاع البنزين، وما رافقها من صور لطوابير تطول، أخبرني صديقي بأن آتي إلى الحي حيث يعمل، وأترك سيارتي عند شاب يعمل مسؤولاً عن موقف سيارات بجانب المحطة. “بدل ما توقفي ناطرة بالدور كل النهار، بتدفعيله 50 ألف ليرة”، وكان للخمسين ألف قيمة أكبر بقليل ممّا لها اليوم، “بتتركيله سيارتك وبتروحي عالشغل، وبترجعي آخر النهار أو بكرا بتاخديها.” تبعت نصائحه بدقّة، لحداثتي في هذه التجربة وخوفي من تخطّي القوانين غير المكتوبة لما أحسست بأنّه “أعمالاً شبه قانونية”. ما كان صادماً لي خلال تلك التجربة، هو الطريقة التي كان الشاب يتعاطى بها مع “مريديه” من جهة ومع السيارات التي تتحرّك بين الموقف والشارع والمحطة. كان مَلِكاً متربّعاً على 100 متر مربّع، يركض الجميع لمراضاته، بينما يتحرّك هو بكامل اقتناعٍ بسلطته وقدرته على السيطرة. وهذا ما فاجأني: ما الذي يجعل هذا الشاب واثقاً بسلطته بهذا الشكل، ما هي شبكة العلاقات وموازين القوى التي تعطي لشاب عشريني سلطة شبه مطلقة على حركة البنزين من وإلى الشارع والحي وربما المدينة؟ تضيء تجربة نسرين على بعضٍ من هذه التساؤلات.

حيّ نسرين وسرّ مولّد الكهرباء

“مدام مساء الخير. بس حبيت حطك بالصورة. الشهر الجاي بدي وقف الأصنسير. ما فيني كمل هيك لأنه ما معقول ناس يدفعوا وناس مايدفعوا، ما فيني كمّل، يعني الصراحة سوري، عم بتحمّل خسارة فوق خسارة. بتمنى عليكي ما تزعلي مني لأنه بدي وقف الأصنسير الشهر الجاي. يعطيكي ألف عافية ويسعد مساك.”

تنتهي نسرين من تشغيل الرسالة الصوتية وتضع تليفونها جانباً. تفسّر لي بأن الرسالة هذه من يوسف، مزوّد كهرباء المولدات، الشهير ب”صاحب\تبع الموتور\الموتير”، والذي كان يوفّر الطاقة لشقتها المستأجرة منذ انتقالها إليها منذ ما يقارب ال 17 عاماً، وإلى المبنى السكني بكامله لفترة أطول. يوفّر يوسف خدمة المولدات الخاصة به في حي رأس بيروت، لفترة أطول ممّا يذكر معظم السكان. لكن خلال الصيف الماضي ، عندما كانت أزمة الوقود في ذروتها ، بدأ يوسف بال”تقنين”، أي التقليل من ساعات الكهرباء التي يوفّرها، في حين رفع أسعار اشتراكه في الوقت نفسه إلى مستويات فلكية، لا يمكن لمعظم السكان تحمّلها.

“بشهر تموز، بلّش [يوسف] يلعب معنا. ساعة بيقطع، ساعة بجيب. يقطع 4 ساعات، بدون ما يقول. بعدين 9 ساعات. بعدين صاروا 17 ساعة وراء بعض. بعدين صاروا 48 ساعة.” 

بحلول نهاية شهر تموز، قرّر يوسف فجأة التوقف عن تقديم خدمات المولّدات. تصف نسرين الأسابيع الستة التي تلت ذلك بـ “رحلة جهنّم” ، عندما وجدت أنّها وبشكل مفاجئ، هي وكل سكّان الحي مجبرون على تنظيم أنفسهم والتعبئة للعثور على مزوّد مولد بديل، بينما كانوا يعيشون في حالة انقطاع تام للتيار الكهربائي. تغيرّت حياة نسرين وجيرانها حيث اضطرت معظم الأسر إلى التخلص من كل شيء في ثلاجاتها، والسعي لإيجاد ترتيبات معيشية مؤقّتة أخرى. كان جميع أفراد أسرة نسرين الستة، بمن فيهم والدتها المسنّة، يعيشون في بيوت مختلفة منتشرة في أنحاء الحي ذاته.

ازداد الغموض الذي أحسّ به سكّان مبنى نسرين وحيّها، نتيجةً للنصائح الخاطئة والتفاعلات الملتبسة مع مزوّدي الكهرباء الآخرين في الحي ، وهو ما تزامن مع ارتفاع سعر الخمسة أمبير بشكل مطّرد. في الوقت نفسه، تم تغذية مبانٍ أخرى في نفس الشارع بإمدادات مستمرة من طاقة المولدات. وقد أوضحت ذلك بسمة، وهي من سكان مبنى نسرين سابقاً وقد انتقلت إلى مبنى آخر نتيجة افتقار  المبنى إلى مصدر طاقة ثابت وموثوق: “اكتشفنا إنه المنطقة مقسمة إلى مناطق نفوذ، بين أصحاب الموتورات التلاتة الموجودين بهيدا الحي، والثلاثة من نفس الطائفة ومقسمين بين بعض. لما جرّبنا نعمل اتفاق مع واحد منن ليعطي كهرباء للبناية قال لأ، ما فيه يزعل يلي تركنا [يوسف]، لأنه بيكون ابن منطقته.” وكان نتيجة ذلك أن يوسف لم يعد يستطيع تأمين التغطية الكاملة أو حتى الجزئية للكهرباء، لكن المباني التي “تتبع” له، ممنوع عليها توصيل الكهرباء من مزوّد آخر، وذلك لأن أخلاقيات المهنة -“جنتلمانز آغريمنت”- تمنع تعدّي مزوّد كهرباء على منطقة\مباني غيره. 

في مرحلة ما، وجد سكان حي نسرين أنفسهن\م أمام عدة خيارات، كلّها لم تستطع أن ترى النور، من التفاوض مع المزودين الذين تراجعوا خوفاً من تجاوز الخطوط الطائفية، أو وضع المولدات في الشارع بوعد بالحماية من البلدية، إلى شراء مولد خاص لكل مبنى. كما لعبت شخصيات دوراً عبر تقديم وعود بتزويد الكهرباء ثم اختفت من حيث ظهرت. فمظفّر، وهو زعيم عشيرة ساحر ومبهج من بعلبك، كان يترددّ على متجر ملابس صغير يخصّ أحد أفراد عائلته في الشارع  الذي تسكنه نسرين، و في كثير من الأحيان متخاتلاً بمسدس وضعه في حزام الخصر من بنطاله الجينز ليكون مرئياً للجميع. في لقاءات نسرين العديدة مع مظفّر، ذهب إلى حد الوعد بإيواء والدتها المسنّة في منزله بينما كان يقوم شخصياً بفرز إمدادات الكهرباء لنسرين وجيرانها. وفي يوم من الأيام،  مثلما ظهر بشكل غامض، اختفى مظفّر  ووعوده بتوفير المولدات. “صاروا يقولولي الجماعة ما بيعرفوه ومش سامعين فيه” تقول نسرين، “وطلعت القصة كمان طائفية.”

نجحت نسرين أخيراً بتأمين الكهرباء لشقّتها، لكنّها لم تستطع فعل ذلك لجيرانها. دفعت 140 دولاراً لخمس أمبيرات، دون المصعد الذي أمّن يوسف، وقد عاد يوماً فجأة، تغطيته. لكن بعد فترة قصيرة، عاد يوسف للتهديد بعدم تغطية الكهرباء لمصعد المبنى. 

“معظم سكّان المبنى من المسنّات والمسنّين، وليس لديهن\م مدخول. وهم يدفعون إيجاراً قديماً. حاولت بعض الشقق دفع ما تستطيع لتغطية مصروفهم للكهرباء، لكنه [يوسف] لم يعد يقبل بذلك.”2“Most of the building residents are elderly and have no source of income. They are also paying ‘old rent.’ Some apartments tried to pay as much as possible to cover for them, but he [Youssef] won’t accept it anymore.”

حيّ نسرين في رأس بيروت، كما رسمته

عن خطوط النفوذ

كانت الشبكات الزبائنية لمزوّدي كهرباء المولدات موجودة قبل فترة طويلة من الأزمة الحالية، مُحدِّدةً بصمت مناطق النفوذ التي تتقاطع مع الأحياء. يشير الافتقار إلى المساءلة عن سوء إدارة قطاع الطاقة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، إلى أن الفجوات المستمرة في إمدادات الكهرباء من شركة كهرباء لبنان استمرّت لعقود حتى اليوم. وهو ما أدّى إلى نشوء اقتصاد غير رسمي لمورّدي كهرباء المولدات من القطاع الخاص، والذي، على الرغم من كونه غير رسمي، نما بشكل غير منظم لكن كبير.
تشكّل الزبائنية عقيدةً مركزية في سياسات اللامساواة والمسارات غير الرسمية. كما تضمن شبكات المستفيدين والعملاء تبادل الموارد المحدودة لفقراء المدن من أجل منفعة سياسية للمجموعات القوية اجتماعياً (Mitlin 2014). يصف هيلغرز (Hilgers 2011) المحسوبية\الزبائنية بأنها 

“تبادل يقوم فيه الأفراد بزيادة مصالحهم. وتمتاز المحسوبية بأنها طويلة الأمد والانتشار  وعديمة المساواة، وتعتمد على التواصل وجهاً لوجه، أي أنها علاقة شخصية دائمة بين الأفراد من ذوي الوضع الاجتماعي والسياسي غير المتكافئ.”(Hilgers, 2011:568 in Mitlin, 2014:5).3“an exchange in which individuals maximize their interest, clientelism involves longevity, diffuseness, face-to-face contact, and inequality. That is, it is a lasting personal relationship between individuals of unequal sociopolitical status.”

توضح حالة نسرين الطبيعة الشخصية للعلاقات التي نشأت بين سكان الحي ومزوّدي كهرباء المولدات. فبالإضافة إلى تعريف هيلغر، غالباً ما يتمّ وصف هذا التبادل بأنه غير متكافئ وشخصي ودائم وطوعي ومتبادل. (Muno, 2010). كيف يمكن للتبادل غير المتكافئ بين طرفين غير متكافئين الحفاظ على طبيعة المعاملة بالمثل؟ وجدت دراسة عن العلاقات بين الزبون والمستفيد في القطاعات غير الرسمية في تشيلي أنه، ومع زيادة فروقات القوة بين مقدّمي الخدمة والزبائن، “يتم تبادل خدمات الشريك الأكثر قوة من خلال إظهار الامتنان والولاء بشكل متزايد” (Lomintz, 1988: 47). بمعنى أنّه كلّما ازدادت قوّة مقدّم الخدمات وسلطته، وجب على الزبون إظهار المزيد من أشكال الامتنان، وازداد ارتباطه به. هذا الولاء ، في المقابل ، يوصف بأنه يشكل أساس الدعم السياسي (Kurer, 1993).

في حالة نسرين، كان اختيار مزوّد خدمات المولدات يتحدّد مسبقاً من خلال قرب المسافة والسهولة، غير أنّه حمل أيضاً إقراراً غير معلن بالسلطة السياسية والتقسيمات الناتجة عنها في كل منطقة. في الحقيقة، غالباً ما تتخطّى حدود عمل هؤلاء المورّدين خطوطاً طائفية. فقبل كل شيء، يتم تعزيز ترسيم أراضي كل مزود من خلال ولاءات المشتركين والولاءات الطائفية، والتي ستترجم أيضاً إلى دعم سياسي.

مع بداية أزمة الوقود، وبشكل أخص تزامناً مع الأزمة الاقتصادية، لجأ أغلب سكان الحي إلى مناشدة هذه الخدمات بدافع الحاجة، لا بدافع علاقة زبائنية أو ولاء. مع زيادة الحاجة إلى الخدمات، فإن الطبيعة التطوعية (Muno, 2010) للعلاقة تتبدّد بسرعة، فتصبح، شيئاً فشيئاً، متعلّقة بموقع الزبون وامتيازاته. 

ليست تجربة نسرين فريدة من نوعها بل أتت نتيجة للأدوار المتغيرّة للشبكات البديلة لتقديم الخدمات. فمنذ بداية الأزمة، بدأ مزوّدو كهرباء المولدات بتجميع رأس المال الاجتماعي – من بناء شبكة علاقات أو تقويتها وتجديدها – بسرعة لأن خدماتهم لم تعد اختيارية بل أصبحت ضرورةً أساسية.. وما لبث أن نشأ اضطراب في مدى تأثير هؤلاء المزودين وقدرتهم على السيطرة على “مناطقهم”. في الوقت عينه، لا تزال بعض الخطوط الطائفية غير قابلة للكسر، تاركة جيوباً مظلمة داخل الأحياء المضاءة لفترات طويلة من الزمن، حيث لا يستطيع السكان ترتيب مصادر بديلة للكهرباء.

بين شرائط الكهرباء الممتدة بين الأعمدة، خطوط لنفوذ  الأحزاب والمجموعات السياسية ولسلطتها داخل الأحياء، تتغيرّ وتتبدّل استجابةً لضغوط الأزمة الاقتصادية المتنامية. تستطيع قصّة نسرين وحيّها، بالإضافة إلى روايات أخرى نعيشها ونسمع عنها كل يوم، أن تُظهِر كيفية حدوث هذه التحوّلات مكانياً، وكيف تنعكس في علاقات سكان الحي، وكذلك كيف تؤثرّ هذه التحولات بشكل مباشر على نوعية الحياة والأوضاع المعيشية لهؤلاء السكان. من خلال هذه الروايات إذاً، نرى كيف يتأرجح رأس المال، وكيف يتم التفاوض لحمايته والحفاظ عليه، وكيف تُرسَم التحوّلات الناتجة في حياة سكان الحي.

مراجع إضافية:

  • Kurer, Oskar. “Clientelism, corruption, and the allocation of resources.” Public Choice 77.2 (1993): 259-273.
  • Lomnitz, Larissa Adler. “Informal exchange networks in formal systems: a theoretical model.” American anthropologist 90.1 (1988): 42-55.
  • Mitlin, Diana. “Politics, informality and clientelism–exploring a pro-poor urban politics.” (2014).
  • Muno, Wolfgang. “Conceptualizing and measuring clientelism.” Paper to be presented at the workshop on Neopatrimonialism in Various World Regions, giga German Institute of Global and Area Studies, Hamburg. 2010.

المراجع

  • 1
    تمّ تغيير أسماء الأحياء والأشخاص
  • 2
    “Most of the building residents are elderly and have no source of income. They are also paying ‘old rent.’ Some apartments tried to pay as much as possible to cover for them, but he [Youssef] won’t accept it anymore.”
  • 3
    “an exchange in which individuals maximize their interest, clientelism involves longevity, diffuseness, face-to-face contact, and inequality. That is, it is a lasting personal relationship between individuals of unequal sociopolitical status.”
 
 
 

إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد

في الرياضيات، تتناول الطوبولوجيا خصائص الشكل الهندسي التي يتمّ الحفاظ عليها تحت ضغط قوة كبيرة وتغييرات مستمرّة ناتجة عنها، كالتمدّد والالتواء والانحناء والتجعّد.ما نمرّ به اليوم يجعلنا نتساءل عن تأثير الانهيار الاقتصادي علينا، …

إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد

يروي إيتالو كالفينو في إحدى قصصه عن المدن، قصّة "أوريليا"، تلك المدينة التي يطلب منك سكّانها أن تنظري إلى عددٍ من البطاقات البريدية التي تُصوّرها كما كانت "قبلاً". في أي مكان تزورين، ستضطرين ...

إنهيار النقل أو الخريطة المتقلّصة

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“ يقول ڤالتر بنيامين: “سننتصر على الرأسماليّة بالمشي”. فأمشي، ليس لأنّني أؤمن بنهاية الرأسماليّة -المتأخّرة منها أو غيرها- ولو أنني أرغب ذلك بشدّة، أو …

الإنهيار الإقتصادي يضرب النظام الغذائي ويهدّد الصحّة والحياة

جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“ تتّفق الأزمات الماليّة وغيرها في آثارها السلبيّة على استهلاك الطعام والموادّ الغذائيّة، خاصّة أنّ أسعارها تتأثّر بشكل كبير في ظلّ ارتفاع سعر صرف …