عام 2018، وفي قلب الانتفاضة السودانية، رُفِع شعار “الثورة نقابة ولجنة حي”. على الرغم من اختلاف السياقات، وجد هذا الشعار صداه عندنا، لقدرته على تثبيت المقاربة المكانية للحيّ وتمثيله كمسار أساسي للتغيير اليومي والممكن.
من هنا نبادر للتفكّر والتعمّق بموضوع لجان الأحياء كمدخل لقراءة النقاش القائم والصراع المستجدّ حول مشروع إنشاء ساحة عامّة عند تقاطع شوارع غورو، أرمينيا وباستور، بمبادرة من مختبر المدن في الجامعة الأميركية في بيروت. أطلق أصحاب النفوذ في المنطقة الاعتراض على المشروع ووضعوا العراقيل – بأساليب ميليشياوية – وصولًا إلى توقيفه. إلّا أنّ هذه العراقيل، وعلى الرغم من جذورها اللا-ديمقراطية والميليشياوية، ترافقت مع عريضة -تضمّ اقتراحات أقّل ما يقال عنها أنها إشكالية- أرسلها السكان إلى المحافظ مروان عبود، معترضين على شكل المشروع. لن نغوص في هذا المقال في تفاصيل المشروع نفسه أو المسار الذي اتّبعه القيّمون عليه، ولا في الهواجس التي عبّر عنها بعض السكان، وهي كلّها تفاصيل ضرورية ومن المهم التطرّق لها، لكنّنا نرى اليوم الأولوية في توجيه هذا النقاش إلى الأساسيات، من حيث مفهوم التمثيل على المستويين النظري والعملي، في السياق اللبناني، وبالتالي، ما يشكّله من تأثير على مستوى مفهوم التشاركية.
بالعودة إلى العريضة، نسلّط الضوء على الموقّعين على العريضة المُعنوَنة “أهالي “الجميزة”، “مار مخايل”، “الرميل” و”مار نقولا”” لنطرح أسئلة نعتبرها محورية في هذا الصدد: ما هو الحيّ؟ من يتكّلم بإسمه؟ وما سياق تشكيل هذه اللجان والهيئات المعترضة؟ بذلك، نحاول تظهير تعقيد مسألة التمثيل واستحالته ربّما، في ظلّ غياب الأطر التمثيلية المرهونة في لبنان بمعضلة التصويت في مكان القيد لا السكن.
عن مفهوم الحيّ
قبل البدء بالتفكير بمعنى التنظيم المجتمعي أو اللجان على مستوى المحلي، يبدو من الأساسي التطرّق لمعنى الحيّ وكيفية تحديده، حيث أنّ فهمنا للحيّ ببعُده الجغرافي، الزماني، الاجتماعي/الاقتصادي بكافة تعقيداته، هو المرتَكَز الذي يُبنى عليه.
قانونياً، يقرّ قانون المخاتير والمجالس الاختيارية عبر المادة 3 بالحيّ كمكوّن مكاني، فالأماكن “التي يزيد عدد سكانها المقيمين فيها عن 3000 نفس تنزل منزلة المدن وتُقسّم إلى أحياء ويعتبر الحي بمثابة قرية وتطبّق بشأنه أحكام المادتين السابقتين. تُعتبر الأحياء كما هي مسجلة في الإحصاء ولا يمكن إنشاء حي جديد أو إدغام حي بآخر إلا بقرار من وزير الداخلية.”
يُعتبر الحيّ بقعة جغرافية تشكّل جزءاً لا يتجزأ من المدينة\القرية، ويكون له اسم متعارف عليه، وهو مكان مادي تسكنه جماعات مختلفة أحياناً. قد يكون لأيّ حيّ وظيفة معيّنة ومقوّمات تختلف عن غيره من الأحياء، ولا يمكن فصل الحيّ عن محيطه الأوسع وعن العلاقة التي تجمعه مع الأحياء الأخرى (علاقة تكامل، منافسة، تباين، علاقة جيرة، إلخ). كما تربطه بالأحياء الأخرى شبكات طرق، ومواصلات ومساحات عامة، تبني- من خلال علاقتها مع بعضها البعض- صلب ماهية المدينة.
الحيّ بالمفهوم النظرّي إذاً، هو مدى مكاني متفق عليه نسبياً وله إسم، و هو مزوّد بالمرافق والخدمات، يشمل شبكة شوارع وأزقة تشكلّ بنيته وتربطه ببعضه البعض وبالأحياء المحيطة. لكن هل تُعتبَر كلّ بقعة جغرافية تتوّفر فيها هذه الصفات، حيّاً؟
وفي حين أن البعد المادي غالباً ما يُنظر إليه على أنه ما يشكّل ركيزة نشوء الأحياء، إلّا أن الأحياء هي بالأخص مواقع للتجربة الإنسانية، وتشمل العلاقات الاجتماعية والذكريات والعواطف والتفاعل اليومي، والقدرة على تشكيل المساحة الخاصة للجماعة، وتصوّر حدودها. بمعنى أن الحي ليس بُعداً جغرافياً فقط، بل يتمّ إنتاجه من خلال نسيج من العلاقات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية التي تجمع الناس المختلفين أحياناً وتخلق الارتباط اليومي بينهم.
والأحياء هي أيضاً أماكن للتفاعل الاجتماعي بين جماعات مختلفة، طبقياً، عمرياً، ثقافياً، بحيث تطرح المدينة من خلالها إمكانية “المواجهة مع الاختلاف” (ميتشل، 2014)…وكأنّها تقول بأن اللقاء مع من يشبهنا فقط، أمر مملّ. ولكي تخلق مساحة الاختلاف بشكل صحي، تحتاج الأحياء لأن تكون فاعلة سياسياً، بالأخص للدفاع عن مفهوم الحق في المدينة وشموليته.
من ناحية أخرى، فإن أي تدخّل مكاني على مستوى الحيّ، هو تدخّل اجتماعي أيضاً، إذ يؤثّر في علاقة السكان والمستخدمين مع المساحة، مع مساكنهم، ومع بعضهم البعض. وبالتالي، فإن مشاريع التخطيط المديني التي تسعى إلى إنشاء نمط مغاير للنمط المهيمن للتخطيط، هي أيضاً مبادرات لفتح نقاش حول ماهية الحيّ، والعلاقات الاجتماعية القائمة فيه، وأشكال الطبقية والعنصرية والتمييز والإقصاء المختلفة التي تطرحها السلطة. فتستطيع بذلك أن تسائل المسلّمات التي ثبّتها الخطاب المهيمن حول الفضاء المديني، والمساحات العامة ودورها وحقوق الناس فيها.
تجربة حي مار مخايل وتجمّع سكان الأحياء المتضرّرة من تفجير 4 آب
من هنا، يكتسب الحيّ وجواره عمقاً قد يساهم بتأمين ديمومة العمل السياسي التنظيمي إذا نجحنا بتأطيره بشكل أوسع، أي ربطه بالمديني ككلّ. نستعرض تجربة حيّ مار مخايل على صعيد الحيّ تنظيم الحيّ، ليوضع النقاش حول ساحة مخايل في سياق الديناميكيات السابقة التي ساهمت في تشكيل الاعتراضات.
في 2016 وعلى إثر انطلاق مبادرة من قبل «بيروت مدينتي» للعمل على المستوى المحليّ في أحياء بيروت، بدأت مجموعة من سكان مار مخايل عملها مع خمسة أشخاص من سكان الحيّ، إلى أن ضمّت حوالي خمسين شخصاً مهتمّات\ين بأمور السكن والمهن المهدّدة، وتدهور المساحات والخدمات العامة. وسعت المجموعة بالتالي إلى تحويل التحديات التي يواجهها السكان إلى مبادرة جماعية قادرة على الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم المشتركة.
ساهمت اللقاءات الأولية بتكوين اتفاق ضمني للتركيز على إشكالية البارات المنتشرة في الحيّ وتأثيرها على سكانه، من خلال الاجتماعات العامة وحملة إعلامية كبيرة بهدف الضغط على السلطات.
لكن عملياً، وبعد حوالي سنة على بداية إنشائها، توقّفت المجموعة تدريجياً عن العمل. بقي الأمر على حاله حتى 4 آب 2020، تاريخ التفجير الذي ضرب بيروت ومرفأها. وقد كانت مار مخايل وجوارها أحد الأحياء الأكثر تضرّراً، ممّا شدّ من عضد سكّانها ووحّد جهودهم ضد السلطة، على الرغم من الاختلافات السياسية. عندها، ونظراً لضرورة تشكيل أطر تنظيمية و/أو تمثيلية دائمة لأصحاب الحقوق والمتضرّرين والسكان لتفعيل دورهم، قامت “المفكرة القانونية” و”استديو أشغال عامة” بسلسلة من الجلسات داخل الأحياء، هدفها طرح مبادرة تكوين نواة لتشكيل تجمّعات تضمّ المتضررين من ذوي الضحايا والمفقودين، المتضرّرين جسدياً وذوي الإعاقة وسكان المناطق والأحياء المتضررة. وكان الهدف أن تكون هذه المجموعات مساحة يلتقي من خلالها ضحايا التفجير والمتضرّرون منه، من أجل التعاون في المطالبة بحقوقهم في الوصول إلى الحقيقة والعدالة، وتشكيل قوّة ضغط أمام الجهات الرسمية وغير الرسمية، على مستوى الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية، والدفاع عن حقوق الفئات المهمشة.
خلصت الجلسات المفتوحة في الأحياء إلى تشكيل نواة لتجمّع سكان الأحياء المتضررة، ضمّت سكاناً من أحياء مختلفة، منها حيّ السيدة والخضر في الكرنتينا، مار مخايل والجميزة والجعيتاوي وزقاق البلاط. وقد تمّ الاعتماد بشكلٍ جزئي على الشبكة التي تمّ بناؤها سابقاً مع “لجنة حيّ مار مخايل” لتشكيل نواة التجمّع. لا يدّعي التجمّع تمثيل السكان، وإنما يسعى لأن يتكوّن من السكان الذين يعملون من أجل مصلحة السكان ككلّ، على أن يُصبح بعد التسجيل الرسمي، إطاراً أكثر تمثيلاً، وهو ما لم يحصل إلّا منذ حوالي أسبوعين. للأسف، لم يكن لهذا التسجيل الرسمي تأثير حقيقي على عمل التجمّع، بسبب خفوت الحماسة والسياق السياسي المحبط، كما أن عدد كبيراً من النشاطات كانت قد نُفِّذت بغياب الهيكلية التمثيلية أصلاً. وعلى الرغم من أهمية تشكيل النواة التأسيسية، فقد غابت عنها الفئات المهمّشة ولجان الأحياء التي يحدّدها النظام الداخلي.
القدرة التمثيلية للجان الأحياء في السياق اللبناني
تكمن أهمية هذا النوع من التنظيم على مستوى الحيّ في السياق اللبناني، في المساهمة بإعادة تعريف علاقة الناس بالمدينة\ المكان\ المساحة العامة وإعادة ربط النسیج الاجتماعي للأحیاء، بعد أنّ تم، وبشكلٍ ممنهج منذ التسعينيات، تفكيك الأحياء والمساحات المشتركة في المدينة وتشويه علاقة السكان بأحيائهم ومدينتهم. إذ تغيب المسارات التمثيلية الرسمية في لبنان على مستوى الحي، بل تتوقّف عند القرية أو المدينة أو جزء منها، من جهة، كما ترتبط بمكان القيد لا مكان السكن وتسديد الضرائب، من جهة أخرى؛ ممّا يجعل تشكيل لجان أحياءٍ ذات تمثيل فعلي ومؤثّر، شبه مستحيل، إن لم نقل ممنوعاً. في غياب اللجان الرسمية على مستوى الأحياء، من يتكلم بإسم الحيّ؟
لذا، يكون على المجموعات والمبادرات التي تسعى إلى إنشاء مشاريع تشاركية، أن تضع المزيد من المجهود، لدراسة وجود التنظيم المجتمعي المحلي، وأشكاله، ودعمه باتجاه تمثيل أوسع. وإلّا نكون في موقع لوم السكان على ما لم تسمح لهم السلطة بفعله، بداية من معرفة إمكانية التنظيم على مستوى الحي، حتى اكتشاف الأدوات التنظيمية الفاعلة والديمقراطية واستخدامها، في إطار سياسي اجتماعي يعمل بعيداً عن هذه الأدوات وضدها.
وما أكدّت عليه تجربة مشروع ساحة مار مخايل – إن كان منا ناحية الاستشارات التي قام بها مختبر المدن أو من ناحية الاعتراض من قبل السكان – أنّ أي عمل محلي غير رسمي سيبقى مهدّداً بالاندثار لحظة الإستحقاقات التمثيلية، في غياب الأطر التمثيلية الصحية ورهنها بمعضلة التصويت في مكان القيد لا السكن. دون التوقف عند هذه الإشكالية ودون العمل الممنهج لتغييرها من خلال القانون (على الرغم من صعوبة هذه المهمة)، أو على الأقل توجيه العمل المطلبي نحوها، نحكم سلفاً على التنظيم المجتمعي المحلي بالفشل، أو على الأقل نقلّص -وبشكل شبه محسوم- حظوظه في الديمومة. فإنّ إحلال القيد العائلي أو الطائفي محل القيد المكاني هو الشرط الضروري لحسن سيرورة نظام الزعامة، وليس هذا التدبير تفصيلاً بل هو العمود الفقري لكلّ نظام التمثيل في لبنان.
من الضروري بالنسبة لنا، وفي إطار أي تخطيط\تصميم\تنظيم مديني، أن يكون السكان في صلب هذا المشروع، منذ بدايته وحتى بعد بنائه، ممّا يعني ذلك من مشاركة لأوسع أطياف سكّان الحي. لكنّ ذلك، وكما رأينا آنفاً، يواجه عقبة التمثيل الحقيقي للحي، في ظلّ غياب الأطر التمثيلية، وهو ما يسهّل الهيمنة على أي تمثيل مستجدّ للأحياء، إن كان من قبل الرجال والأقوى والأكثر غنى، أو بشكل عام، من قبل أحزاب السلطة وممثّليها. ممّا يعني الحاجة لبناء هذه الأطر الديمقراطية والأفقية اللاهرمية والشمولية، حتى ولو على مستوى المشروع فقط.
تقع المسؤولية، في أي مشروع مديني، أيضاً على القيّمين على المشروع، لفهم ديناميكيات تنظيم الأحياء وشكله محاولة العمل على فتح المجال أمام المشاركة الأوسع وبناء الشفافية في نقل المعلومات وتفسيرها، لكي يكون بناء المشروع بحدّ ذاته، فرصةً لرفض الإقصاء وفتح النقاش حول المواضيع الحساسة ومخاوف السكان والمفاهيم الرجعية التي ينمو عليها ممثّلو السلطة ويغذّونها.
اليوم إذاً هي فرصة للتفكّر، بكيفية بناء هذه الأطر كنقاش أساسي، فلا يقتصر النقاش على التصميم فقط، بل على معنى المشاركة، وتفكيك الحجج -المحقّة منها وتلك غير المحقّة- ، ورفض هيمنة ممثّلي السلطة، وتظهير القيمة المكانية الاجتماعية للمشروع. بمعنى أن مشروعاً مدينياً، في هذه البقعة بالذات، هو فرصة -معقّدة لكن موجودة- لبتر علاقات الهيمنة، إن على مستوى بناء تمثيل مستقل عن السلطة أو عبر تشكيل أفكار حول التصميم والتخطيط المديني مناهضة لمقترحات السلطة ورؤيتها المدينية.