الصندوق البلدي المستقل: كيف توزّع الدولة حصصه دون دراسات؟

“عهدي أن أعمل على إقرار مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة بما يخفّف من معاناة المواطنين ويعزّز الانماء المستدام والشامل”1 هل تصبح اللامركزيّة واقعًا في عهد الرئيس الجديد؟ | مناطق نت، قالها الرئيس جوزف عون في خطاب القسم الذي شكّلت اللامركزيّة الإداريّة إحدى نقاطه.

ففي الفترة الحالية، خاصة نتيجة الأزمات المتتالية، قد تكون اللامركزية إحدى الأدوات الأساسية لإنعاش المناطق وتأمين الخدمات للسكان. تلعب المركزية الإدارية دوراً أساسياً في تكثيف الموارد في المدن والمراكز، وتشكّل ضرباً للتنمية المتوازنة، وهي أحد مصادر الظلم الذي تتعرّض له الأطراف، بحيث تغذّي التمييز المناطقي وتسمح بتنامي الفروقات الطبقية المتطرّفة. ويُعتَبَر إصلاح الصندوق البلدي المستقل مطلباً أساسياً في اتجاه اللامركزية الإدارية وإعادة توزيع الثروات على المناطق.

في الشهر الأخير من سنة 2024، تمّ إقرار مرسوم 14492 توزيع عائدات الصندوق البلدي المستقل عن عام 2022، الذي يوزّع الحصص على البلديات، اعتماداً على عدد من المراسيم السابقة. من الملفت في هذا المرسوم محاولة توزيع الحصص اعتماداً على حاجة المناطق للتنمية، نظرياّ. لكن التمعّن في تفاصيل المرسوم يسمح بمساءلة المنطق الذي اعتمد عليه. تدفعنا هذه التفاصيل إلى مساءلة المقاربة التنموية التي بُنِي عليها توزيع الحصص، خاصة في ظل غياب الإحصاءات والدراسات التي تقيّم الوضع الحالي للمناطق وتنبئنا بحاجاتها للفترة القادمة. كما نسائل التقسيمات المطروحة لهذه الحصص وسماحَها بتمثيل حقيقي للسكان والمناطق والحاجات. وأخيراً، نطرح مسألة الموازنة التشاركية وضرورتها اليوم.

أولاً، يقوم المرسوم باعتماد توزيع الحصص بصورة نسبية، في الاتحادات على أساس عدد السكان المسجّلين في نطاق بلديات الاتحاد، وفي البلديات على أساس عدد السكان المقيمين في سجلات الأحوال الشخصية لكل بلدية.

تحتسب الدولة إذاً الأعداد المسجّلة للسكّان في سجلات الأحوال الشخصية – النفوس- لتوزّع حصص الصندوق على البلديات، وهو تعداد سكاني عتيق، يعتمد على “السلالة الذكورية التابعة للذين كانوا هناك سنة ١٩٣٢. وهم، بغالبيتهم العظمى، لا يعيشون هناك، لكنهم يصوتون هناك، وتجمعهم ملكية الأراضي» بحسب تعبير الوزير السابق شربل نحاس.

ممّا يعني أن عدد السكان الفعليّين للمناطق والقرى غير ممثّل في هذه الأرقام، وأن الأرقام المُعتَمَد عليها لتوزيع الحصص غير واقعية.
كما نلحظ أن التوزيع يُعطي كل مركز قضاء أو مدينة\منطقة مركزية في القضاء (طرابلس\صيدا\النبطية، إلخ)، الحصّة الأكبر في القضاء، وهو أمر منطقي من ناحية أن السكان يتمركزون عادة بشكل أكبر في هذه المناطق. لكن من ناحية أخرى، فإن التخفيف من هذه الحصّة ولو بشكل قليل وتوزيعه على القرى والمناطق الهامشية قد يُساهم في كسر المركزية – الموجودة حتى في الأطراف- ودعم التنمية المتوازنة بشكل أكبر، وخلق فرص عمل، ودعم البنى التحتية بشكل يجعل هذه القرى مهيّأة أكثر للعيش.

فالتوزيع المعتمد على أعداد السكان لا يستطيع أن يشكّل صورة حقيقية لما تحتاجه المناطق. وبالتالي، من الممكن مثلاً إعطاء منطقة غير مركزية (ليست مركز قضاءٍ مثلاً) لكن لديها حاجات كبيرة ونقص في البنى التحتية والخدمات مثلاً، نسبةً أعلى من الحصص كي يستطيع سكّانها، مهما كان عددهم، العيش براحة والحصول على الخدمات التي يحتاجونها، وعلى حقوقهن\م كاملة.

ثانياً، فإن تعريف التنمية في المرسوم المذكور(“تحدّد مشاريع التنمية المشار إليها في المادة الثالثة – البند ثانياً والمادة الأولى – البند أولاً – الفقرة “ب” من هذا المرسوم بالمشاريع التي تعمل على إنماء البلدة أو اتحاد البلديات اجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وسياحياً”) واسع وفضفاض بل يكاد يكون غير موجود، ممّا يسمح بالاجتهاد حول ماهيته بشكل يمكن أن يتمّ من خلاله تنفيذ مشاريع تدميرية أو غير مفيدة أو ذات جدوى، على أساس أنّها تنموية2هذا وتنفق معظم اتحادات البلديات القسم الأكبر من أموالها على مشاريع البناء، وأهمها إنشاء الطرق العامّة والأرصفة والأقنية، في حين ضاعفت العديد من الاتحادات، خاصة في محافظة جبل لبنان، إنفاقها على البنود المتعلقة بـالنظافة العامة بين السنوات 2015 و2016. بالمقارنة بين البلديات والإتحادات، يتبين أن الأخيرة تنفق أقل من الأولى على النفقات الإدارية، حيث أن بعض رؤساء الاتحادات لا يتلقون أي مخصصات، ومعظمها بشكل عام لا تنفق مبالغ كبيرة على معاشات ورواتب الموظفين والعمال. أخيرًا، أنفقت 50% من البلديات المليارات من الليرات اللبنانية على المساهمات إلى هيئات لا تتوخى الربح وكعطاءات إلى جهات خاصة. تراوح الإنفاق في هذا الفصل بين 1٪ من إجمالي إنفاق البلدية تمثل ببضعة ملايين ليرة (بلديات صوفر، بكفيا – المحيدثة) ليتجاوز المليار ليرة (بلديات الشويفات وسن الفيل). أما فيما خص اتحادات البلديات، فقد تراوح الإنفاق على هذا الفصل بين 0.2٪ من إجمالي الإنفاق (اتحاد بلديات قضاء زغرتا في عام 2015) و 57٪ من إجمالي الإنفاق (اتحاد بلديات جبل عامل واتحاد بلديات قضاء بنت جبيل في 2018). السلطات المحلية – مبادرة غربال.

كما يوضّح المرسوم 1917 تاريخ 1979\04\06 (تحديد أصول وقواعد توزيع أموال الصندوق البلدي المستقل)3الجامعة اللبنانية | مركز المعلوماتية القانونية :: التشريعات النافذة :: تحديد اصول وقواعد توزيع اموال الصندوق البلدي المستقل، والذي يعتمد عليه المرسوم أعلاه، الحاجة إلى توزيع الحصص على “المناطق التي هي بحاجة إلى تنمية”، دون أن يكون لذلك تحديد أوضح للمقوّمات التي تجعل منطقة بحاجة لتنمية أكثر من\دون غيرها. ومن الملفت أن من يقرّر هذه الحاجة هو، بحسب المرسوم ذاته، وزير الداخلية، الذي يناقش ويقرّر تفاصيل توزيع هذه الحصص مع مدير الداخلية العام، وهما موقعان لشخصين لا يملكان بحسب المسمّى الوظيفي لهما، معرفة أو خبرة في تقرير هذه التفاصيل، خاصة في غياب الدراسات والمعلومات المطلوبة لإجراء هذا القرار. ويعود ذلك إلى غياب مؤسسة\وزارة تنظيم عام، تُنتج الدراسات والمسوحات التي تقدّم صورة تفصيلية لواقع المناطق وحاجاتها. وهو ما أدّى فعلياً إلى إدراج عدد إضافي من البلدات، بحسب المادة الخامسة للمرسوم، كرصيد “مخصص لمشاريع التنمية في البلديات ولإنعاش المناطق” لعدد من البلديات، دون أي تبرير لسبب اختيارها، وبكل تأكيد دون الاعتماد على دراسات، وهو ما يفتح المجال لإمكانية المحاصصة والاستفادة الزبائنية.

وأخيراً، تجري هذه العملية كاملةّ بشكل منفصل عن السكّان، دون إعلامهم بأيٍ من مراحلها أو مشاركتهم في أخذ القرار. وهنا نطرح الميزانية التشاركية، كأداة إشراك المواطنات\ين والتي من خلالها يقرّر أعضاء المجتمع كيفية تخصيص جزء من الميزانية العامة. يتّخذ المواطنون قرارات مباشرة حول كيفية إنفاق أموال الحكومة في مجتمعهم من خلال تحديد أولويات مشاريع الإنفاق العام.

تمّ استخدام الميزانية التشاركية في العديد من السياقات، كما يمكن أن تضع وزارة التخطيط إرشادات بشأن هذه الأداة وتفاصيل استخدامها، ممّا يمكن أن يشكّل طريقة فعّالةً للتفكّر بتوزيع الثروات على المناطق.

من المستحيل أن نبني جدولاً لتوزيع حصص الصندوق البلدي المستقل دون أن نمتلك أدواتٍ لمعرفة حاجات المناطق، أعداد السكان الفعليين، ومقاربةً سياسيةً اقتصاديةً اجتماعيةً زراعيةً بيئيةً قائمة على مفاهيم تنموية عادلة تهدف إلى إعادة توزيع الثروات وتأمين الخدمات الأساسية للسكان في إطار عملية تشاركية لإقرار حاجات المناطق وتوزيع الحصص. ممّا يعني بأن إنشاء وزارة تُعنى بالتخطيط العام، هو أمر أساسي للحدّ من الهدر ولتوجيه التنمية بالشكل الذي يفيد المناطق.

المراجع:

  • 1
  • 2
    هذا وتنفق معظم اتحادات البلديات القسم الأكبر من أموالها على مشاريع البناء، وأهمها إنشاء الطرق العامّة والأرصفة والأقنية، في حين ضاعفت العديد من الاتحادات، خاصة في محافظة جبل لبنان، إنفاقها على البنود المتعلقة بـالنظافة العامة بين السنوات 2015 و2016. بالمقارنة بين البلديات والإتحادات، يتبين أن الأخيرة تنفق أقل من الأولى على النفقات الإدارية، حيث أن بعض رؤساء الاتحادات لا يتلقون أي مخصصات، ومعظمها بشكل عام لا تنفق مبالغ كبيرة على معاشات ورواتب الموظفين والعمال. أخيرًا، أنفقت 50% من البلديات المليارات من الليرات اللبنانية على المساهمات إلى هيئات لا تتوخى الربح وكعطاءات إلى جهات خاصة. تراوح الإنفاق في هذا الفصل بين 1٪ من إجمالي إنفاق البلدية تمثل ببضعة ملايين ليرة (بلديات صوفر، بكفيا – المحيدثة) ليتجاوز المليار ليرة (بلديات الشويفات وسن الفيل). أما فيما خص اتحادات البلديات، فقد تراوح الإنفاق على هذا الفصل بين 0.2٪ من إجمالي الإنفاق (اتحاد بلديات قضاء زغرتا في عام 2015) و 57٪ من إجمالي الإنفاق (اتحاد بلديات جبل عامل واتحاد بلديات قضاء بنت جبيل في 2018). السلطات المحلية – مبادرة غربال
  • 3
إدارة الأراضي والتنظيم المدني لبنان