تعوّدنا الخيارات السيئة في لبنان، أو غيابها من الأصل. وهو الحال اليوم فيما يمكن أن يحصل في مرفأ بيروت، بعد هيمنة الجهات الدولية عليه. ها هو اليوم ينوء تحت ضغط الشركة الفرنسية التي تريد إعادته لما كان عليه تماماً، دون تطويره أو تحسين علاقته بالمدينة، ومخطّط البنك الدولي الذي على الأقل يطرح فتحه على المدينة وإعادة وصله بها. وفي الحالتين، فإن تدخّل جهات دولية في إدارة الأملاك العامة هو استنزاف لها وفقدان للسيادة الوطنية.
فبعد الانفجار المدمّر الذي أصاب مرفأ بيروت في الرابع من آب عام 2020، قامت الجهات الدولية بتقييم الأضرار والمساعدة في عملية إعادة بناء المرفأ وتعافيه. وأجرى البنك الدولي بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة تقييماً سريعاً للأضرار والحاجات بعد الانفجار مباشرةً واقترح إطلاق إطار للإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار، عُرِفَ ب 3RF، من أجل تحسين عملية إعادة الإعمار. ركّز هذا التقييم على مسح الأضرار اللاحقة بالسكّان والتدفق الاقتصادي والأصول المادية والبنى التحتية ونطاق تقديم الخدمات في العاصمة بيروت.
وشمل الدعم المقدّم من البنك الدولي منذ تشرين الأول 2021، مساعدة فنية لإعداد قانون جديد خاص بقطاع المرافئ وخطة إعادة إعمار مرفأ بيروت وتطويره ضمن إطار الرؤية الوطنية لقطاع المرافئ1P1762711ba9be70b41acd7133ac5dd1952f.pdf (worldbank.org). تهدف ركائز المساعدة الفنية هذه إلى دعم وزارة الأشغال العامة والنقل في لبنان في إعادة تطوير المرفأ بعد التفجير. وتتصدّى خطة إعادة البناء والتطوير إلى التحديات الكبرى التي واجهها المرفأ والتي تتعدّى التداعيات المباشرة للانفجار، بالنظر إلى دور المرافئ اللبنانية في لبنان وإدماجها في سياقات المدن القائمة فيها. فقد أعدّ البنك الدولي بالتعاون مع شركاء محليين دراسة استراتيجية لبناء موانئ على الشاطئ اللبناني ووضع مخطط توجيهي لمرفأ بيروت، إلا أن المعلومات تؤكد أن هذا الجهد تم إيقافه لصالح دور فرنسي أكبر2“القوّات” تنسف مشروع “الأشغال” لإدارة المرافئ: استبدال السيئ بالأسوأ | Legal Agenda (legal-agenda.com).
بالنسبة “لمشروع قانون الإطار القانوني والتنظيمي لقطاع المرافئ والموانئ التجارية والمتخصصة في لبنان”، الذي أعدّه وزير الأشغال علي حميّة عام 2022، فلم يصل إلى مجلس الوزراء، بحجة أنه يحتاج قبل عرضه على هذا الأخير إلى إجراء مشاورات ومناقشات بشأنه مع كل المعنيين، وزارات ونقابات وبلديات3المرجع نفسه. يستفيض مشروع القانون في الحديث عن السياسة الوطنية لقطاع المرافئ، التي يضعها المجلس الوطني عاكساً من خلالها أهداف التنمية الاستراتيجية طويلة الأمد الموضوعة من قبل مجلس الوزراء، مع ملاءمة الخطة الرئيسة العائدة للمرافئ والموانئ المحلية بغية ضمان انسجامها مع الأهداف الوطنية طويلة الأمد4المرجع نفسه. ويدخل المشروع في تفاصيل هي أقرب إلى القرارات التنفيذية، كما يثقل القطاع بهرمية لا تنتهي من المؤسسات، التي لن تؤدّي سوى إلى وضع العراقيل في طريق عمل هذه المرافئ. أما الأخطر، فهو طيّ صفحة دامت أكثر من 100 سنة من حماية الأملاك والمرافق العامة بوصفها امتيازات تملكها الأجيال المقبلة، لا يجوز بيعها أو استثمارها إلا بموجب قانون ولمدة محددة، بحيث يكتفي المشروع بإقرار قانون لتنظيم القطاع، على أن يُسمح للحكومة بتلزيم كل المرافئ والموانئ، من دون العودة إلى مجلس النواب للحصول على موافقته، كونه الجهة الوحيدة القادرة على تلزيم المرافق العامة بحسب الدستور5المرجع نفسه.
في هذا السياق، أبدت فرنسا والشركة الفرنسية لنقل الحاويات والشحن CMA CGM اهتمامها بمشروع إعادة إعمار مرفأ بيروت. وقد حصلت الشركة على امتياز لتشغيل محطة الحاويات في طرابلس حتى عام 2041. ثمّ قدّمت مشروعاً من ثلاث مراحل لإعادة بناء الموقع الساحلي وتوسيعه وتحديثه ليصبح “مرفأً ذكياً”. تبلغ تكلفة المرحلتين الأوليتين من هذا المشروع ما بين 400 إلى 600 مليون دولار على أن تمّول الشركة نصف هذا المبلغ، بينما أبدت حوالي 50 شركة ومنظمة دولية اهتمامها بالمشاركة.
وفي عام 2022، وقّعت الشركة الفرنسية CMA CGM Group عقود استثمار محطة الحاويات في مرفأ بيروت لمدة 10 سنوات وإعادة تطويره. ونزولاً عند طلب لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت، وضعت آرتيليا Artelia وإيجيس Egis، وهما شركتان فرنسيتان للهندسة متخصصتان بالبنى التحتية للمرافئ، استراتيجية لإعادة تأهيل المرفأ. صدرت الدراسة المموّلة من الحكومة الفرنسية في آذار 2024 وركَّزت على “الهدف العملي من تحديد احتياجات المرفأ الحقيقية بهدف تحسين إمكانيته التشغيلية دون عرقلة القرارات الطويلة الأمد المتخذة بشأن إعادة تنظيمه6Port de Beyrouth: la France fidèle à ses engagements – Ici Beyrouth و Print: Lebanese, French officials float plan to rebuild Beirut port — Naharnet.”
وقد تم تقديم الاقتراح الفرنسي لإنعاش مرفأ بيروت خلال ندوة عامة من تنظيم مختبر المدن ومعهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت7مختبر المدن بيروت – سلسلة نقاشات مرفأ بيروت (beiruturbanlab.com). وقد بدا من خلال الندوة أنّ الشركة الفرنسية هي شركة هندسية تتبع التوجيهات الصادرة عن وزير الأشغال العامة. وقد أوضحت الشركة باستمرار أنّ الاقتراح قصير المدى يعتمد على دراسات سابقة لإعادة تنشيط الميناء لتنظيم حركة المرور، ويقوم على إعادة بناء المرفأ كما كان دون إجراء تحسينات أو تعديلات تتماشى مع الظروف الحالية. فهو بالتالي لا يقترح مشروعاً جديد أو طويل المدى، وذلك بالرغم من أنّ هذه الدراسة كانت من المفترض أن تتم بناءً على اتفاقية تعاون مع مرفأ مرسيليا، وهو مرفأ مفتوح على المدينة على عكس المشروع المقترح لمرفأ بيروت. كما تبيّن من خلال هذا العرض، أنّه لا يأخذ بعين الاعتبار الأزمة الحالية بحيث يهدف إلى استعادة الأنشطة التي كانت موجودة قبل الأزمة دون النظر في التغييرات والاحتياجات الجديدة. لا يلحظ المخطط أيضاً أي حماية لموقع الاهراءات ولا يدرجها ضمن نطاق عمله على الرغم من احتلال هذا المبنى أهمية معنوية وعاطفية عند الناس، ورغم الحملات الشعبية والتخصصية لحمايته، ووجود حقٍ عام للاحتفاظ به كونه يلعب دوراً مدينياً سياسياً بامتياز في حفظ الذاكرة بصرياً، وفي إثبات قوة هذا التفجير وفظاعته. وقد اعتبرت المساحة الفاصلة بين الإهراءات والأحياء المجاورة كمنطقة شحن، بحسب المقترح، ممّا يشير إلى عدم وجود أي نية لفتح هذا الجزء من المرفأ على المدينة ووصله بها ، مبقياً على المرفأ مغلقاً على المدينة كما كان في حالته السابقة.
كما تبيّن أنّ التوجّه الرسمي يقترب أكثر فأكثر نحو هذا الاقتراح الذي يعيد المرفأ إلى حالته السابقة، كما لو أنّ التفجير لم يكن، على عكس اقتراح البنك الدولي الذي يفتح جزءاً من المرفأ على الأحياء المجاورة.
فمن جهة، ما زالت السلطة تتمسّك بمسعاها بتناسي الإهراءات والتخلّص منها ماحيةً الأثر المديني المادي والبصري لما حصل في 4 آب، والشاهد على تفاعل السلطة معه من خلال تقاعسها عن اتّخاذ قرار تدعيمه وتركه يتداعى مع مرور الوقت، أو عدم اعتباره جزء من المشاريع المتعلقة بإعادة إعمار المرفأ. من جهةٍ أخرى، يتمّ استغلال تدمير المرفأ لنهب المزيد من المال والتوجه نحو التخلي عن المرافق العامة وخصخصتها، وهو ما تجلّى من خلال مشروع القانون المقترح من قبل وزير الأشغال، كما واقتراح قانون يرمي إلى تنظيم قطاع المرافئ والموانئ التجارية من قبل القوات اللبنانية، إضافةً إلى مجموعة من القوانين المقترحة بين الحين والحين لإنشاء صناديق سيادية أو مؤسسات مستقلة لإدارة أصول الدولة8https://publicworksstudio.com/once-again-the-lebanese-forces-mps-propose-privatization-as-a-solution-to-the-lebanese-crisis/. كلّ ذاك في ظلّ ظهور اهتمام شديد من فرنسا وشركات فرنسية لإعادة إعمار المرفأ واستلام إدارته.
ففي سياق وجود مشاريع ظرفية قصيرة المدى تعيد المرفأ إلى حالته السابقة يقودها القطاع الخاص بصرف النظر عن أهمية القيمة الاجتماعية-الاقتصادية لإعادة إعمار المرفأ، وتهدف أولاً وأخراً إلى خصخصته، نحن أمام تضييع فرصة جديدة – كما أضعنا الفرصة عند إعادة إعمار وسط بيروت بعد الحرب الأهلية – لإعادة تأهيل مرفأ بيروت بشكلٍ أكثر استدامة وإعادة صياغة دوره على الصعيد الإقليمي، كما وترسيخ علاقة جديدة بينه وبين الأحياء المحيطة به ومعالجة الخلل الوظيفي والتنظيمي السابق بينهما، لتسعيد هذه الأحياء حيويتها وإيقاع الحياة فيها.
المراجع:
- 1
- 2
- 3المرجع نفسه
- 4المرجع نفسه
- 5المرجع نفسه
- 6
- 7
- 8