في سياقٍ مماثل لمرحلة ما بعد الحرب الأهلية، وفيما يمرّ أهل بيروت وضواحيها بصدمة جرّاء فقدان بيوتهم ومحالهم وأحيائهم وأقربائهم ولما هالهم منظر الدمار الذي غطّى عشرات الهكتارات في مرفأ بيروت والمناطق المحيطة به، قد يجد السكان الحلّ الذي أتت به اليوم شركات خاصة، أمراً باعثاً للأمل. لكن القضية أبعد من رسومات جذّابة وعناوين مطمئنة؛ فلِما يحمله المشروع المطروح -أو ما سيُطرح من خلال مشاريع مماثلة له- تأثيرات كبيرة على الأحياء المتضرّرة والمدينة ككلّ. وإن لم نسأل الأسئلة المناسبة، ونتطرّق لأولويات السكّان المهجّرين والمتضرّرين أولاً، لن تكون عواقب هذه المشاريع إلّا تدميراً أكبر للمناطق المتضّررة، واستهتاراً أكبر بحقوق الناس.
يوم الجمعة من الأسبوع الفائت، قدّمت أربع شركات ألمانية متخصّصة مشروعاً بمليارات الدولارات إلى السلطات اللبنانية لإعادة بناء وتطوير مرفأ بيروت والمناطق المحيطة به. إذا تم تبنّي الخطة، فسيتمّ تمويلها من قبل “بنك الاستثمار الأوروبي”.
تهدف الخطة كما تم تصويرها، إلى تصميم مرفأ متطوّر من شأنه أن يعيد الموقع الجغرافي التاريخي لبيروت كمنفذ إلى المناطق اللبنانية الأخرى. وسيترتّب على ذلك نقل المرفأ إلى الجهة الشرقية، مع نقل منطقة التخزين إلى الأرض الواقعة على الجانب الشرقي من نهر بيروت والتي يشغلها حاليًا مكب النفايات في برج حمود، وسيتم نقل منفذ الميناء الرئيسي من وسط المدينة إلى المنطقة الصناعية المحاذية لنهر بيروت.
تتضمن الخطة أيضاً بناء مبانٍ شاهقة ذات وظيفة سياحية وعددٍ من ناطحات السحاب المطلّة على البحر، وحديقة مركزية في وسط المنطقة، ومجمّع سكني بأسعار ميّسرة للعائلات، ومرافق رياضية وحضانات ومدارس.
وسيكون المشروع ممكناً من الناحية المالية – كما شرحوا – عبر تحويل الأموال من مستثمري القطاع الخاص إلى البنى التحتية العامة.
نموذج تجاري يغيّب السلطات المحلية والناس معاً
قيل الكثير في انتقاد الاقتراح بحد ذاته. فهو بالفعل يعيد ارتكاب خطأ «سوليدير» لناحية إسقاط تصوّرات معمارية على النسيج العمراني الاجتماعي الموجود أساساً، دون أخذ خصائص المناطق المحيطة ولا الظروف الاجتماعية والاقتصادية القائمة ولا السياسات المعتمدة في الاعتبار. بيد أنه يقع في نفس الخطأ الذي ارتكبته الدولة اللبنانية في مشروع سوليدير، من حيث وضع قرار التخطيط والتطوير في يد شركة خاصة.
فالمشروع في واقع الأمر نموذجٌ تجاريٌ business model مملوك من القطاع الخاص ويتم التحكم فيه دولياً. وفيما يهدف إلى تهميش كبار المطوّرين المحليين، إلّا أنه لا يقترح نموذجًا مختلفا عمّا قدّمه هؤلاء حتى الآن، بل يعتمد في مقاربته على مشاريع التطوير العقاري الأوروبية التي تمّ إسقاطها على السياق المحلي. كما يخلو المشروع من ذكر المستخدمين: نحن لا نعرف من سيرتاد هذه المدارس، ومن سيتردّد على هذه الحدائق، ومن سوف يسكن المجمّع السكني. كما لا نعلم ما هي علاقة البرامج العامة المطروحة بالمحيط، وما دور السلطات العامة فيها، بحيث لا يتمّ ذكر دور الدولة في كل هذا.
لذلك، وأبعد من مناقشة الإقتراح الألماني بحدّ ذاته، علينا أن نناقش الإطار الذي سوف يرعى كل هذا. وقبل أن نبدأ بتلزيم أجزاء من المناطق المتضررة أو إعطاءها للمانحين والمستثمرين والمعماريين الأجانب، هناك قرار محليّ يجب أن يُتّخذ حول ماهية سياسة إعادة الإعمار التي نريد.
قانون إعادة الإعمار يفتقد الى سياسة تستفيد من دروس الماضي
وقد يكون قانون إعادة الإعمار الصادر مؤخراً هو أبرز دليل على أهمية أن نفتح نقاشاً في الإطار والرؤية. فالقانون يُنشئ لجنة تنسيقية لإعادة الإعمار تضمّ محافظ بيروت، ممثل عن قيادة الجيش، وممثل عن كل من وزارة الأشغال العامة، وزارة المالية، وزارة الثقافة، مجلس الإنماء والإعمار، المؤسسة العامة للإسكان، الهيئة العليا للإغاثة، ونقابة المهندسين في بيروت. لا تتضمن هذه اللجنة أي تمثيل لأصحاب الحقوق والمتضرّرين والسكّان، مما كان ليعزّز الشفافية والتشاركية الضروريتين تحديداً بعد انهيار ثقة المجتمع بالمسارات الرسمية. فرغم كل المطالبات بوضع آليات تشاركية وشفافة ترافق أعمال الجهات الرسمية، ما زال الناس مُبعدين عن دوائر أخذ القرار حيث يتم تحديد مصائرهم. كما يفتقد القانون إلى أي سياسة أو رؤية تستفيد من دروس الماضي، بل يعتمد مقاربة تخلو من الشقّين الاقتصادي والاجتماعي وتختزل العمران بالمباني والعقارات. تغيب عن القانون أي مندرجات لتعافي الأحياء الأكثر تضرّراً، وتحديداً الحق بالوصول إلى سكن ميسّر، منعاً لتهجير سكّان هذه الأحياء وشاغليها القُدامى والجدد تمهيداً لحلول فئات من ذوي الدخل الأعلى مكانهم. كما لا يتضمّن أي تحفيز للتعافي الإقتصادي والإجتماعي للمناطق المتضرّرة أو أي خطة لإنعاش الحيّز العام.
باختصار، لم يساهم القانون في تمكين السكان من ترميم أبنيتهم المتضررة بشكل سريع، أو إيضاح مسار تسديد التعويضات، أو تقديم الحوافز، أو منح الأولوية لضمان السكن الميسّر، أو وضع مسار لتأهيل الحيّز العام، أو إرساء سياساتٍ تحدّ من المضاربات.
إعادة تأهيل الأحياء عملية سياسية وليست تقنية
هذه الأمور سياسية بامتياز، وليست تقنية. وبالتالي، فإنّ عملية تأهيل الأحياء المنكوبة واستنهاضها، من الكرنتينا ومار مخايل والجميزة إلى الجعيتاوي ستكون صراعاً سياسياً حقيقياً. لذلك، نحن بأمسّ الحاجة إلى مناقشة الرؤية والإطار، بغض النظر عن الجهة التي سوف تُكلَّف للتنفيذ أو التمويل. فإن لم يضع القانون الصادر إطاراً تشاركياً وشفافاً، ولم يرسي سياسة شاملة وعادلة وسليمة لإعادة تأهيل الأحياء المتضررة، وإذا لم تساهم الجهات الدولية مثل الشركات الألمانية في إشراك الناس برؤى منفتحة تشمل الجميع ، ربما يجب أن نسعى إلى بلورة خطتنا البديلة ومحاولة فرضها في جميع محافل صناعة القرار؛ نحن المجتمع وأهالي الضحايا وجميع سكان الأحياء المتضررة.
- خطة إعادة التأهيل تكون بضمان إعادة بناء الاقتصاد والمجتمع في الأحياء المتضررة ولا تقتصر على المباني والبنى التحتية؛
- وتهدف إلى تعافي الأحياء واستعادة الحياة اليومية وتُمكّن كل الناس من العودة بأسرع وقت ممكن قبل فوات الأوان؛
- فهي خطة تضع مقوّمات الأحياء في صلب توجيه مستقبلها؛
- تحمي حق السكن للجميع وتحمي الناس من التهجير المؤقت والدائم؛
- خطة تحترم البيئة وتعمل على تأهيل المساحات العامة والمشتركة بشكل مُتاح للجميع؛
- خطة تضمن المساواة بين الضحايا وتشمل الفئات الاجتماعية المختلفة من دون أي تمييز؛ وتضمن تعويضاً عادلاً وتوّضح آليات تسديدها والجدول الزمني لتوزيعها.
- وأخيراً هي خطة تسعى إلى بلورة إطارٍ عام يضمن مشاركة جميع الضحايا وسكّان المناطق المتضررة في التخطيط والتنظيم والتنسيق والتنفيذ.
لقد رأينا نتيجة مشاريع “الإعمار” التي تمّ تطبيقها في السنوات الماضية. اليوم نعي جيداً ما يعنيه تغييب الناس، ونعتبر أن المشاريع أو المقترحات التي لا تستند الى أطر عامة ومسارات دامجة وسليمة، غير قادرة على تحقيق العدالة التي نتوق إليها، لا سيّما تلك المقدمة من جهات ستستفيد حتماً من التمويل والتنفيذ.