بيان أصدره عدد من المجموعات والتنظيمات التي أصدرت عريضة “إفتحوا الحدائق العامة“.
حتى كتابة هذا البيان، لاتزال الدولة اللبنانية تغلق الحدائق العامة في بيروت، متحججةً بقرار لجنة الجائحة، متجاهلةً المطالبات العديدة لإعادة فتحها. ليس الأمر بغريب على سلطة كانت حتى قبل الجائحة، تقفل الحرش – وهو أكبر مساحة عامة خضراء في بيروت – أمام العامّة، وتمتنع عن افتتاح المزيد من الحدائق خاصة في العاصمة المكتظة، وتتهاون في العناية بالحدائق الموجودة وبتوظيف حرّاس يعتنون بها.
في الحقيقة، تتعاطى الدولة مع الحدائق العامّة كهبة تتمنّن بها على الشعب، من خلال خطاب يقول بأن الناس غير قادرين على استخدام الحدائق العامة، وهن/م غير ناضجين/ات بما يكفي لاحترام المكان. ويظهر الطابع الطبقي العنصري لرؤية السلطة لمستخدمي/ات الحدائق العامة، خاصة وأنّها مساحات مفتوحة للجميع، ممّا يجعلها مقصد من لا يستطيعون تحمّل تكلفة الأماكن الخاصة، من لاجئات/ين وطبقة عاملة ومهمّشات/ين. فليس خفياً بأن السلطة، ولسنين طويلة، غذّت ثقافةً طبقية، تجعل الأغلبية يظنون بأن الحدائق العامة ليست حقاً، بل هي ملجأ من لا يملكون شيئاً، ممّا سمح برمي الحدائق العامة خارج الاستخدام اليومي للطبقة الوسطى، وخارج اهتمام الأغلبية. كما أن إقفال هذه الحدائق وعدم إستخدامها يجعلها أماكن منسيّة. فلم نعد نطالب لا بصيانة الحدائق الموجودة، ولا بإنشاء أخرى جديدة.
ويبدو أن الجائحة والإقفال الناتج عنها من جهة، والانهيار الاقتصادي والعوز الناتج عنه من جهة أخرى، دفعت عدداً أكبر من الناس إلى اللجوء إلى الحدائق العامة، واستذكار قيمتها. وفي هذا الإطار، فإن القيمة البيئية والصحية للحدائق العامة ليست أكبر من قيمتها الاجتماعية. ففي ظل الفصل الطبقي المناطقي الطائفي، تلعب المساحات العامة دوراً في جمع الفئات المختلفة وفتح مجال لالتقائها ببعضها البعض وتفاعلها. تملك المساحات العامة القدرة على خلق حيّز لا تستطيع أي مساحة أخرى خلقه، ممّا يجعلها جزءاً لا يتجزّأ من عملية الانتماء والتفاعل الاجتماعي في إطار بناء الدولة.
من ناحية أخرى، تستطيع الحدائق العامة إنتاج سياق عام اجتماعي سياسي فني، يشجّع على النشاط العام والإبداع. بذاك، تعمل باتجاه تعريف الفضاء العام وعلاقة الجماعات والأفراد به، وتحقّق قيمته، وتظهر أهميته عن الملكية الخاصة.
ومن خلال بحث ميداني أجريناه في كانون الثاني 2022 عبر زيارة 19 حديقة عامة في بيروت الإدارية، تبيّن أن 42% من هذه الحدائق كانت مغلقة كلياً. والملفت أن إغلاق بعض الحدائق ومن ضمنها حرش بيروت لم يكن دائماً أو مستمراً منذ بدء جائحة كورونا بل تخلّل هذه الفترة نشاطات فتح وإغلاق متكرّرة. وفي هذا الإطار، يقول الحراس بأن المحافظ، المسؤول عن إصدار قرار إغلاق الحرش بحسب ما قالوا لنا، يسمح للبعض ممن هم معروفون بزياراتهم للحرش بممارسة الرياضة، ما يدحض حجة إغلاق الحرش بسبب كورونا. عند سؤال الحراس و/أو السكان في المنطقة المحيطة عن سبب إغلاق الحدائق هذه، تنوّعت الردود بين جائحة كورونا، قلة الكهرباء لتشغيل الإضاءة، الحاجة للمزيد من الحراس، الحاجة للصيانة، أعمال التأهيل والصيانة من قبل بعض الجمعيات في بعض الحدائق، التخريب وكثرة السرقات وحتى تعاطي المخدرات وفي بعض الحالات أسباب أخرى كالإنزعاج من أصوات لعب الأطفال وغيرها. يشكّل عدم وضوح الأسباب وعدم ثباتها أو إعلانها للعامة، مصدراً للقلق ولعدم تصديقنا لها.
ومن الملفت أنّ 14 من أصل ال19 حديقة لا حراس فيها و6 حدائق على الأقل تعاني من مشكلة كبيرة في النظافة و4 من الحدائق لا مستوعبات نفايات فيها و3 حدائق تحتوي عدد قليل جداً من المستوعبات. أما بالنسبة للغطاء النباتي فمن الـ9 حدائق التي تحتوي عليه، 6 منها تعاني من وضع سيء وعدم اهتمام بهذا الغطاء. كما يلاحظ عدم وجود مقاعد في 2 من هذه الحدائق وسوء حال المقاعد في 2 من الـ17 التي تحتوي على مقاعد. كل هذه الملاحظات تبيّن إهمال الدولة لهذه الحدائق وعدم الإهتمام بها وعدم الإكتراث لضرورة فتحها كأولوية لتلبية حاجة الناس إلى مثل هذه الأماكن.
من الضروري أن تصبح الحدائق والمساحات العامة جزءاً لا يتجزّء من حياتنا، إن على مستوى التربية، أو الاستخدام. وبإمكان مؤسسّات الدولة والسلطات المحلية أن تشمل الحدائق في مشاريعها التوعوية، من خلال إشراك طالبات وطلّاب المدارس في مختلف المواسم، للاهتمام بها، وتشحيل أشجارها وغرسها. كما بإمكانها تطوير برامج تدريبية (internship- Stage)، بالتعاون مع الكليات المعنيّة، لطالبات وطلّاب العمارة وتصميم المساحات والإدارة البيئية في الجامعات، ليمضوا الفصل العملي المطلوب منهم في التدرّب في هذه الحدائق. فبدلاً من إغلاق هكذا مساحات، حري بالدولة اتّباع توجّه مبني على إشراك الناس بإنشاء المساحات العامة والعناية بها، لتصبح هذه الحدائق مسؤولية جماعية مشتركة، وجزءاً لا يتجزّأ من نشاطات السكان. بحيث يرتبط وجود المساحات والحدائق العامة واستعمالاتها بذاكرة المكان المشتركة انطلاقاً من قيمتها الاجتماعية وعلاقة السكان بها. فإستعادة هذه المساحات المشتركة وحرية إستعمالها يرتبط بشكل عضوي بإستعادة حق الناس في المدينة.
أخيراً، ما زلنا ننتظر إجابة البلدية ورئاسة الوزراء على العريضة التي وقّعت عليها 41 جمعية ومجموعة بيئية وأهلية وسياسية، والتي تطالب بفتح الحدائق العامة في بيروت. خفّفت الدولة من قواعد ضبط التجمعات الناتجة عن الجائحة، وألغت العديد منها، لكن إغلاق الحدائق العامة مستمر، في الوقت الذي فُتِحت فيه الحدائق العامة في كبرى المدن وفي مراحل اشتداد الجائحة، لأن الأماكن العامة المفتوحة هي المكان المفضّل ارتياده، صحياً ونفسياً.
إن الحدائق العامة حقّنا، اليوم بالذات، وفي ظل اختناق الغالبية الساحقة نتيجةً للانهيار الاقتصادي، واستحالة الخروج من بيروت لغلاء المحروقات، يشكّل إعادة فتح الحدائق العامة ضرورةً قسوى وحاجة اجتماعية وصحية.
وأخيراً، نسعى لفتح هذه المبادرة للجميع، فيما تستمرّ اجتماعاتنا بمشاركة جمعيات ومجموعات وناشطات\ين بالإضافة إلى ممثّلة عن لجنة البيئة في نقابة المهندسين في بيروت، لمتابعة هذا الموضوع والضغط سوياً لفتح هذه الحدائق والاهتمام بها.