بعد فاجعة غرق قارب في طرابلس، ليل السبت 23 نيسان 2022، طالعتنا الحكومة بقرار في جلسة الثلاثاء 26 نيسان 2022 ينصّ على “تشكيل لجنة برئاسة السيد رئيس مجلس الوزراء وعضوية السادة وزراء: العدل، المالية، شؤون التنمية الإدارية، الداخلية والبلديات، الشؤون الإجتماعية والإقتصاد والتجارة هدفها إعداد مشروع قانون يرمي إلى إنشاء مجلس لتنمية الشمال، وعرضه على مجلس الوزراء بالسرعة القصوى”. يحمل هذا القرار الكثير من التجاهل للمشاكل البنيوية التي تعاني منها المدن والمناطق ويُحَجَّم معنى الإنماء مجدداً بإنشاء مجلس هنا ومجلس هناك.
ليس غريباً أن يجري ما يجري اليوم في طرابلس بالذات. فالهجرة في القوارب ليست مفصولة عن الواقع الاقتصادي وغياب فرص العمل ومقوّمات الحياة للغالبية القصوى من أهل المدينة والمنطقة. منذ التسعينيات، تم تهميش المقوّمات الاقتصادية لمدينة طرابلس من خلال التدمير الممنهج لقطاع صناعة المفروشات، أحد أهم القطاعات في المدينة، والذي شكل 60% من اقتصادها. قضت الدولة على هذا القطاع من خلال إصدار قوانين للسماح باستيراد المفروشات، ما أدّى إلى اختفاء هذا القطاع وخسارة آلاف الوظائف. عندما نقرأ في تاريخ طرابلس، نعي بأن مشاريع الدولة فيها لم تأتِ على أهلها بنتيجة إيجابية، بل دائماً ما كانت في خدمة المصالح الضيقة.
اليوم، مجدداً وبدلاً من إنشاء مجلس جديد على شاكلة مجالس الهدر والمحسوبيات والمحاصصة المناطقية كمجلسي الجنوب والإنماء والإعمار، من الأجدى على الدولة أن تعمل على مقاربة وطنية عادلة للتنمية الاقتصادية، قادرة على الحفاظ على حقوق الناس وتأمين حاجاتهن\م. يمتلك لبنان استراتيجيةً وطنيةً للتنمية لمواجهة مركزية العاصمة واقتصادها الريعي. فالخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، التي صودق عليها بموجب مرسومٍ عام 2009، تشكّل وثيقةً رئيسةً للتنمية المستدامة والتخطيط، وتهدف إلى توجيه الاستثمارات العامة الكبيرة مع الحرص على التنمية المتوازنة وترشيد استخدام الموارد وخلق فرص العمل.
وتوصي الخطة الشاملة بأن تكون مدينة طرابلس وضواحيها مركزاً حقيقياً من ناحية الإدارة والسياحة الثقافية وصيد أسماك وغيرها، وذلك من خلال دعم الميناء والحرف اليدوية والنقل العام الفعال والبيئة الطبيعية الساحلية. لا بدّ من تنفيذ الخطة الشاملة لترتيب الأراضي فوراً وفق تقسيماتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وإعادة إنشاء وزارة للتصميم التي كان قد تمّ إلغاؤها عام 1977. تشكل هذه الوزارة بديلاً عن المجالس والهيئات، وهي قادرة بصلاحياتها الواضحة والمحدّدة أن تستحصل على المكانة الشاملة في رسم السياسات العامّة.
إنّ هذا المجلس المطروح إنشاؤه تحت مسمّى “مجلس تنمية الشمال” سيتحوّل إلى إدارة رسمية من دون قانون، تعمل على حساب عددٍ من الوزارات، وسيطغى عليه الطابع الخدماتي والريعي على قاعدة المحاصصة. كما سيكون الإنفاق على مشاريع تُحاك عقودها وتكاليفها مع تضخيمٍ للأرقام، احتساباً للسمسرات والرشاوى، وهي بالتالي أداة للسطو المقونن على المال العام من قبل أطراف السلطة، التي تؤمّن لهم مثل هذه المجالس والهيئات والصناديق تدفّق خياليّ ومستمرّ للأموال، على حساب حقوق الناس والإنماء الفعلي والمجدي للمدن والمناطق.