انتقلت أم حسن إلى الطريق الجديدة عام 1982 لما كانت في سنّ الثامنة عشر وأماً لطفلين. وهي جنوبيّة الأصل متزوّجة من قريبها الذي كان من سكّان بيروت. أم حسن اليوم إمرأة خمسينيّة، تعيش في الحي نفسه في الطريق الجديدة، إنما في بيت جديد بعد أن أخليت من بيتها السابق قبل ثلاث سنوات. بين بيتها القديم وبيتها الجديد فسحة صغيرة، محميّة من المطر والشمس بخيمة قماش، لا تتعدّى أضلاعها المترين. تمثّل هذه الفسحة ماضي وحاضر ومستقبل سكن أم حسن. ستجدها هناك كلّ يوم بعد الظهيرة تشرب القهوة وتدخّن سيجارة؛ على يمينها شبّاك بيت عاشت فيه أربعة وثلاثين سنة واليوم لم يعد لها، وأمامها مباشرةً باب بيت شكّل شراؤه فرصة لها للبقاء في بيروت. خلال سلسلة من الجلسات في هذه الفسحة نتعرّف على قصّة أم حسن وعلى صراعات أهل الحي للبقاء فيه في ظلّ الضّغوطات العقارية.
مسار سكن أم حسن: جدول زمني
الجلسة الأولى _ هكذا عاشوا في المدينة
أهمّية النسيج الاجتماعي المترابط في الأحياء القديمة
قصّة أبو حسن
اليوم تروي يمنى، البنت الوحيدة لأم يمنى، قصّة أبو حسن رجل ستّيني من سكّان منطقة الطريق الجديدة. سنة 1978 تزوّج من قريبته من الجنوب أم حسن. كان موظّفاً في بلديّة بيروت، مركز عمله في ساحة أبو شاكر. أبو حسن عبدالله، اسمه مألوف لجميع أهل المنطقة حول أبو شاكر. عندما تزوّج، لم تكن تسمح إمكاناته الماديّة سوى أن يعيش وزوجته في بيت أهله في النويري. طوال أربع سنوات كانت علاقته بأخوته في البيت متوتّرة وكان يشكو أمره لأبي عمر، أحد اصدقائه في البلدية الذي كان يسكن في حيّ قريب من ساحة أبو شاكر. فدلّه الأخير على شقّة صغيرة يعرفها في الحي معروضة للإيجار ونصحه بالانتقال من بيت أهله واستئجارها ليرتاح من المشاكل، وهذا ما حصل. انتقل أبو حسن وزوجته وطفليهما إلى بيت على تلّة زريق في الطريق الجديدة مطلع عام 1982، وسط جيران يألفونهم.
البيت القديم
تقع بناية “سعادي” في حيّ قديم على تلّة زريق بدأ يستقطب العمران منذ ثلاثينيّات القرن الماضي. تشكّل الحيّ على مراحل واكتظّ مع الفورات العمرانية المتتالية للطريق الجديدة منذ الأربعينيات 1البحث الإجتماعي السريع، بيروت وضواحيها، 2005، مجلس الإنماء والإعمار. على عكس عدد كبير من الأبنية الأقدم المحيطة به، لم ينشأ بناء “سعادي” كبيت عائلي ليتوسّع مع الوقت، إنّما نشأ كبناء استثماري تجاري في فترة كانت فيها الطريق الجديدة تستقطب عائلات وافدة من الجنوب والإقليم. تكوّن البناء من ثلاثة طوابق، واثنتي عشر شقّة الى أنّ أُلصِقت اليه شقّتان في أوائل الحرب الأهلية.
سكنت أم حسن وعائلتها منذ قدومهم إلى الحيّ سنة 1982 في واحدة من هاتين الشّقتين. انتقلت أم حسن إلى الطريق الجديدة مع تضخّم حاد كانت قد شهدته العملة اللبنانية، فكانت تدفع 400 ليرة بدل إيجار أصغر شقّة التي لم تتعد 35 متراً مربعاً مقابل 15 ليرة كان يدفعها الجيران الأقدم للشقق الأكبر. بعدها وضعت الدولة قانوناً لضبط الإيجاراتالفورات العمرانية المتتالية للطريق الجديدة منذ الأربعينيات2قانون 1944 تمديد عقود الإيجار وتحديد بدلاتها وانخفضت قيمة الإيجار تدريجياً إلى 20 ليرة. كانوا أربعة أشخاص وأصبحوا خمسة بعد أن ولدت إبنتهم الأصغر سلوى. كانت شقّة أم حسن هي الأصغر في البناية، مؤلّفة من غرفة واحدة ومنتفعاتها بالإضافة إلى مدخل البيت الذي كان يتّسع لكنبة واحدة، لذلك وجدت أم حسن متنفّساً في فسحة صغيرة قرب بيتها. تخرج من باب البيت الخشبي إلى زاروب ضيّق لا يتعدّى عرضه متراً واحداً وتتجه يساراً فتجد نفسها في الفسحة التي ليست سوى زاوية إلى جانب طريق الحيّ تلتقي عندها بناية “سعادي” مع بيت اّخر مهجور.
البيت الجديد
لم يكن ذلك البيت مهجوراّ دائماً. فهو بيت قديم صغير يشكّل جزءاً من 4 بيوت متلاصقة لعائلة حمد، فيه غرفة صغيرة ومطبخ وحمام، سكنه أهله في الأصل حتّى السبعينيات ثم تركوه عندما كبر أولادهم وانتقلوا إلى بيت أبعد. في الحرب أضاف صاحب البيت غرفة إلى البناء، أسوة بجيرانه أصحاب بناية “سعادي” وحوّلها الى منجرة قضى فيها وقته. عندما انتقلت أم حسن الى شقّتها في بناية “سعادي” في الطريق الجديدة مع طفليها عام 1982 كانت الفسحة الصغيرة المستطيلة أمام باب المنشرة هي الفسحة ذاتها التي باتت أم حسن تقضي فيها وقتها ويلعب فيها طفلاها.
كان صاحب البيت مسنّاً يستأنس بأم حسن وولديها وكان يعدها أن يبيعها بيته هذا يوماً ما ولكنّه توفّي قبل أن يحصل ذلك. في صيف 20063قانون 1982 تمديد أحكام الإيجارات، كان من بين المهجّرين من الضاحية الجنوبية سلوى ابنة أم حسن، وزوجها وطفلتهما. عائلة أم حسن، أمّها وأخوتها، هربوا ايضاً، وانتهى بهم المطاف كلّهم في الطريق الجديدة. باتت الأم والأخوة في شقّة أم حسن والشّقة الملاصقة المهجورة من بناية “سعادي”، أمّا سلوى وزوجها فاستأجروا بيت جار أم حسن المسنّ الذي كان فارغاً بعد أن انتقلت العائلة إلى حيّ آخر من بيروت، وبقوا فيه ولم يرجعوا إلى بيتهم في الضاحية بعد الإعمار. بعد بضع سنوات من استقرار سلوى في البيت، أبلغ ابن صاحب البيت أم حسن نيّته بيع البيت وعرض عليها شراءه إلّا باعه لغيرها. لم تكن أم حسن تملك المال الكافي لشراء البيت ولكنّها لم تقبل بيعه لغيرها، فأعطته رعبوناً صغيراً بانتظار جمع المبلغ الكامل، وهذا ما لن يحصل إلّا بعد ستّ سنوات، عندما سيأتي مستثمر يشتري بناية “سعادي” ويعرض عليها 20 ألف دولار تعويض إخلاء.
تمويل البيت الجديد:
قصّة أم يمنى: إمرأة ثمانينيّة من سكّان الحي السابقين
إنتقلت أم يمنى إلى بيروت في سنّ الرابعة عشرة عندما تزوّجت. كانت هي وعائلتها من بين العائلات الإثنتي عشر التي سكنت في بناية وداد وأخوتها. عندما قرّر ورثة البناء هدمه عام 2012 لإنشاء بناء حديث، دخلت أم يمنى في محاكمات لخمس سنوات من أجل الاستحصال على بدل إخلاء. لم يتوفّر لأسرة أم يمنى أي خيار للبقاء في بيروت. عرض أولادها على المستثمر أن يشتروا شقّة في البناء الجديد ولكنهم جوبهوا برفض نهائي غير مبرّر. لجأوا إلى بعض المكاتب العقارية للبحث عن شقّة في المنطقة نفسها ولكن أسعار الشقق هناك كانت قد ناهزت بعد العدوان الإسرائيلي في تموز 2006 الـ250 ألف دولار. كانت عائلة أم يمنى قررّت قبل سنوات وقبل التبّيغ بالإخلاء وحتّى شراء منزل في قرية برجا في الإقليم، أنه عوضاً عن استلاف القروض لشراء شقة في بيروت، من الأنسب الإستثمار في تأهيل بيت برجا والانتقال إليه.
عندما زار المستثمر بيت أم حسن لأوّل مرّة كانت المفاجأة، فلم يكن أي من السكّان على علم أنّ البناء قد بيع. ولكن لم تكن تلك المرّة الأولى التي يطلب منهم إخلاء البيت فسبقت ذلك محاولات من مستثمرين آخرين لشراء البناء ما دفع أصحاب الملك إلى رفع دعاوى بالإخلاء. قد تكون هشاشة وضعها السكني هي ما أجبر أم حسن على دفع رعبون لشراء بيت جارها العجوز قبل سنوات إلى أن يتوفّر لديها المال لشرائه، ولكن من المؤكّد أن تعويض الإخلاء شكّل وسيلتها الوحيدة للحصول على المبلغ الكافي لإتمام الإتفاق بينها وبين إبن جارها الذي أصرّ على الإلتزام بإتّفاقه معها. لذلك عندما جاء إليها المستثمر عارضاً مبلغاً من المال مقابل إخلائها وعائلتها البيت فاوضته على مبلغ أكبر يمكّنها من شراء وتأهيل البيت المجاور الذي كانت تسكنه ابنتها سلوى وعائلتها في تلك المرحلة. وخلال المفاوضات مع المستثمر، استدانت مبلغاً من المال من أخيها لتدفع الجزء الأكبر من ثمن بيت جارها. وبعد شرائه، احتاجت أم حسن إلى مبلغ صغير اقترضته من مؤسّسة حزبيّة دينيّة مُقرِضة وصلت إليها عن طريق كفالة من أقاربها وعلاقاتهم الإجتماعية في منطقة الضاحية، وقامت بتأهيل الغرفة التي استعملت كمنجرة ثمّ دكّاناً لأبو حسن.
الجلسة الثانية _ عن واقع حيٍ وقصص بقاء
قصّة الجارة وداد: الاستثمار ملاذ لأصحاب الأبنية القديمة
وداد جارة أم حسن، هي إحدى الورثة لبناء في الحيّ ذاته. تعيش عائلة وداد في هذا الحيّ القريب من ساحة أبو شاكر منذ أن قدم والدها الى الحيّ في الثّلاثينيات وبنى بيتاً فيه. كان من أوائل البيوت التي بنيت على تلّة زريق. مع تهافت السكّان إلى المنطقة بدأت العائلة تزيد غرفاً ثمّ طوابق إلى البيت وتقسّمها الى شققٍ صغيرة وتؤجّرها للعائلات الآتية من الجنوب والإقليم. اثنتي عشرة عائلة سكنت في بناية عائلة وداد بين مستأجرين وورثة المالك. بعد الحرب كان البناء قد أصبح في حالة سيّئة ولم يكن باستطاعة الورثة ولا المستأجرين صيانته أو ترميمه، وكان عدد الورثة وعائلاتهم ارتفع ولم يعود إيجار البناء يدرّ أي مدخول يذكر عليهم. لذلك شكّلت الفورة العمرانيّة في فترة إعادة الإعمار وهجوم المستثمرين على الأملاك القديمة المتهالكة فرصة للورثة لتحسين وضعهم السكني، فأجروا حصر إرث تمهيداً لإستثمار العقار، الّا أن ذلك لم يحصل قبل العام 2015 عندما عقدوا اتفاقية استثمار مع شركة لها عدّة مشاريع في المنطقة. اليوم ينتصب مكان البيت القديم بناءٌ حديث من أحد عشر طابقاً يتقاسم الورثة ملكيّته وتسكن فيه وداد في شقّة مع أحد أخوتها، فيما توزّع المستأجرون على مناطق أخرى خارج بيروت وداخلها.
بناية “سعادي” تقع في حيّ تكوّن قبل الستّينيّات وما زالت أغلب أبنيته القديمة قائمة حتى اليوم، وبالتالي فهو يحمل كمّاً كبيراً من نسب الاستثمار غير المبنيّة4منذ 1971 أزيلت جميع ضوابط الإرتفاع الأقصى للأبنية وأصبح معدّل احتسابها 2 x عرض الشارع الموازي. وفقاً لقانون البناء الذي أقرّ عام 2004، أصبح العلو الأقصى يحتسب بمعدل x 2.5 عرض الطريق، كما أصبح معدّل الاستثمار يحتسب وفقاً لحجم العقار. ويعدّ بيئة خصبة لاستقطاب المستثمرين. هذا الواقع لا تخفى ملامحه في الحيّ الذي بدأت معالم تحوّله تظهر في السنوات الأخيرة. عام 2012 هدم البناء الذي ورثته وداد وأخوتها وبنوا مكانه بناءً أصفر تجارياً من أحد عشر طابقاً بالشراكة مع مستثمر من المنطقة، في مقابل بناء جديد ما زال قيد الإنجاز، ووراء بناية “سعادي” بناء آخر شيّد في العام 2015 مكان بناء أقدم بنته شركة أخرى هي نفسها اشترت بناية “سعادي” عام 2011.
انتقلت أم حسن إلى بيتها الجديد ولم تكن المسافة بعيدة. “من الباب للباب”. هي لم تشعر بأي تغيير على حياتها بعد الانتقال. ما زالت حياتها كما كانت، بما في ذلك الفسحة أمام البيت. الفسحة ما زالت كما كانت عليه، أم حسن وأبو حسن ما زالا يجتمعان فيها، أولادهم الثلاثة كبروا وصار لديهم حفيدان. ما زالت هنا تنشر غسيلها وتحضّر طبختها وتراقب حفيديها وهما يلهوان وهنا تؤنّب عامل البلديّة الذي لم يكنّس الزاروب كما يجب، وهنا أيضاً ما زال يجتمع جيرانها بعد كلّ ظهيرة لشرب القهوة والتحدّث عن مغامراتهم ومغامراتهنّ اليوميّة في العمل وفي البيت. “هون بحسّ حالي بعدني جوّا”. في هذه الفسحة، لا تشعر أم حسن بأن حياتها تغيّرت رغم أنها قد تغيّرت بالفعل. فأبو عمر صديق أبو حسن والحجّة أم عمر توفّيا منذ زمن، وخمس جارات في بناية “سعادي” أخذن تعويضاتهن من المستثمر ورحلن، وليلى وحسنة والحاجّة محاسن تركن الحي منذ التسعينيّات ومكان بيوتهن الصفراء المتهالكة يقف اليوم بناءان من تسع طوابق ليس أمامهما فسحة كتلك في الجهة المقابلة عند بيت أم حسن بل فقط مرآب للسيارات. حين تسأل أم حسن عن شكل حياتها الاجتماعية في الحيّ تجيب “هون” إمّا في الفسحة أو عند جارتها هلا في بناية “سعادي”، ولكن أيّام الآحاد تذهب لزيارة أقاربها في الضاحية. أبو حسن يتوجّه أكثر إلى ضيعته في الجنوب. عام 1993 قدّم ابو حسن استقالته من عمله في البلديّة متأملاً تعويضاً كبيراً. اليوم أكثر ما يندم عليه أبو حسن اليوم هو ترك عمله في البلديةّ. فكل ما حصل عليه كان مبلغاً بسيطاً وأصبحت العائلة من دون مدخول. وبالإضافة إلى انعدام الاستقرار المادّي الذي نتج عن ذلك، وجد أن حياته الإجتماعيّة فرغت مع كلّ التغيرات في الحيّ حتّى أنّه في العام 2005 قرر أن يفتح دكّاناً صغيراً في غرفة المنشرة في البيت المجاور الذي كان هجره جارهم المسنّ والذي اشتروه لاحقاً.
قصّة هلا: جارة أم حسن في بناية “سعادي”
هلا: إمرأة في منتصف العمر، تعمل في مجال الفنادق
تعيش هلا وأختها الأكبر، وكلتاهما غير متزوّجتين، في إحدى شقق بناية “سعادي” بعد وفاة والديهما.
-هلا تتكلّم: “إجا أوّل شي بدّو يعطيني 25 ألف دولار”، تتكلّم عن المستثمر الذي اشترى البناء، “ما قبلت. كانوا إمّي وبيّي موجودين، رفضنا. عاد إجا، قال بيعطينا 43 ألف، قلناله أوكي. بيّي كان منصاب بفالج وأمّي بتضيّع، قال بدّو إفادة حكيم شرعي إنّو بيّي بكامل قواه العقليّة. جبناهن ورحنا عملنا وكالة لخيّي لهوي يتصرّف معو. ساقبت اتوفّى – بعيداً عنّك – بيّي. هلّق صار في امّي. رحنا جبنا إفادة طبيب لأمّي متل ما جبنا لبيّي. راح ياخذ بخاطر خيّي وقلّه بعطيك هلّق 25 ألف وبس تسلّمني المفتاح بعطيك البقيّة. قاله خيّي بدنا نسجّلها عند الكاتب العدل، ما قبل، قلّه خيّي لكان لأ. بعدين إجو أخذوا قياسات البيت للمحكمة وشوي تاني رفعوا علينا دعوى. قلناله نحنا شو بتقول المحكمة قبلانين. طلعنا لعند جارنا – توّفّى من فترة – وخبّرناه، قال نحنا ويّاكن سوا. أربع بيوت وكّلنا محامي واحد”.
عام 2011 اشترت شركة استثمار عقاري بناية “سعادي”. كانت هذه المحاولة الثالثة منذ التسعينيات لمستثمر لشراء البناء. شقّة أم حسن كانت مكوّنة من غرفة ومطبخ وحمام. بعد مفاوضات اتفقت أم حسن مع المستثمرمع أحد أصحاب الشركة على مبلغ 20 ألف دولار ثمن خلو، ولكن شرط إعطائها مهلة سنة لإخلاء البيت. كانت أم حسن تعرف أنها لن تحصل على أفضل من هذا المبلغ إذا قررّت دخول المحكمة. تباعاً، استلمت أول 10 آلاف دولار منه مع ورقة مصدّقة من الكاتب العدل، وبعد 10 أشهر، تركت البيت وأخذت باقي المبلغ. بيت أم حسن كان الأصغر في بناية “سعادي”.
أمّا جيرانها في الشقق الأكبر فلم يقبلوا بالمبالغ الصغيرة نسبيّاً التي عرضها عليهم المستثمر وطالبوا بمبالغ متناسبة مع مساحات شققهم. منهم من توصّلوا معه لاتفاقات وصلت إلى 45 ألف دولار وتركوا البيوت، ومنهم من تمنّعوا ودخلوا في محاكمات.
“أنا على شو عطاني 20 ألف؟ بيتي ما بيستاهل والمحكمة ما عطتني، هو إجا عطاني. هيك ربّك راد… الزلمي نيته صافية عليي”
-أخت هلا تتكلّم: “هلّق نحنا وياهن بالمحاكم. أربع جيران وكّلنا محامي، الباقيين ما بدّن. إلنا سنتين كل ثلاث أشهر يبأجّلوا المحاكمة. مبارح كانت الجلسة أجّلوها للشهر الجاي.”5التأجيل ناتج عن ارتباط قضيّة المستأجرين هذه بالقانون الجديد للإيجارات القديمة (2014) وبتعديله (2017) الذي يعلّق قضايا هؤلاء المستأجرين في المحاكم طالما أن لجنة (تخمين) وصندوق (المستأجرين) لم يتشكّلا بعد.*مرجع (مريم مهنا من مفكرة قانونية).
تضع هذه المسألة السّكان في حالة من عدم الاستقرار، فهم يعرفون أن لا خيار أمامهم سوى ترك البيت، ولكن متى وكيف وإلى أين هي الأسئلة التي تجعلهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار جذري في الوقت الحالي. فهم غير مستعدّين للإنتقال من البيت إلّا بعد الحصول على المبلغ الكامل من التعويض خشية عدم التزام المستثمر دفع المبلغ المتبقّي بعد أن يخلوا البيت. كما أنّ خيارهم لبيت مستقبلي سيكون معتمداً بشكل أساسي على قيمة التّعويض الذي سيحصلون عليه. المستثمر دفع 550 ألف دولار ثمن المبنى للورثة الذين توفّي أغلبهم، والمستأجرون يقدّرون أن البناء الذي سينشأ مكان بنايتهم سيكون كبيراً نسبةً لكبر حجم العقار، والطريق أمامه يؤدي إلى البربير إذا ما استكمل وهذا ما سيعطي المبنى امتيازاً إضافيّاً، مما يعني أن شققه ستكون أغلى بكثير من البناء الآخر وراءهم. فمن هذا المنطلق يشعر السكّان بأن المبالغ المعروضة عليهم لم تكن عادلة، خاصّة وأن المستثمر سيسترد هذه الأموال عند بيع شققه، أمّا هم، فهذا المبلغ سيكون وسيلتهم الوحيدة للحصول على مسكن اّخر.
الجلسة الثالثة _ “نحنا مش مزارعين”
أهمّية المدينة في تأمين سبل العيش
قصّة ناديا:
ناديا امرأة خمسينيّة ولدت وكبرت وتزوّجت وربّت عائلة من 4 أولاد في صبرا. ولدت ناديا لعائلة قدمت إلى بيروت من تركيا عام 1960 وتزوّجت من أحد أولاد صاحب البيت الذي استأجرته عائلتها منذ قدومها إلى المدينة. بعد زواجها انتقلت إلى خارج صبرا حيث عاشت لأكثر من 30 عاماً. واليوم، بعد وفاة زوجها، عادت ناديا إلى البيت الأوّل حيث ولدت ولكن هذة المرّة بصفته بيتاً ورثته عن زوجها. هو بيت بسيط جدّاً فيه غرفة واحدة ومنتفعاتها وهو جزء من بناء تتشارك ناديا ملكيّته مع أخوة زوجها وورثتهم. قبل أشهر دخل ورثة العقار في مفاوضات مع مستثمر أبدى اهتمامه بشراء العقار. ناديا لا تريد بيع بيتها لأنّ إمكاناتها الماديّة لا تسمح لها بإيجاد بديل، ولكن بدل أن ترفض البيع، تكتفي بأن تدّعي ألا يعود المستثمر لاستكمال المفاوضات.
ولكن ماذا لو رفضت التوقيع على البيع؟ هي واحدة من ثلاث عشر وريثاً، ولكن هي أيضاً واحدة من ثلاثة ورثة فقط يسكنون في العقار، وبذلك تكون المتضررة الأكبر من بيع البيت، ورغم ذلك، إذا رفضت التوقيع، وإذا اجتمع الورثة على البيع، ستكون ناديا مجبرة على بيع حصّتها.
عدد كبير من جارات أم حسن في البناء وفي الحيّ تركن بيوتهن، منهنّ الحاجّة محاسن التي انتقلت لتعيش في بيت أحد أبنائها في منطقة المدينة الرياضيّة، وأم يمنى التي تركت بيروت الى برجا. بالنسبة لأم حسن، وجزء كبير من عائلات الطريق الجديدة، ورثت عائلتها أرضاً وجزءاً من بيت في الجنوب، ولكن الانتقال إلى الجنوب لم يكن أحد الخيارات المطروحة لدى العائلة. “ما فينا نعيش بالجنوب، مش مزارعين نحنا. بعدين ابني بيشتغل عالنمرة الحمرا، شو بدو يشغّله بالجنوب؟”. فمدخول العائلة المكوّنة من أب وأم مسنَّين وولدين غير متزوّجين يعتمد على ابنها الوحيد حسن الذي يعمل سائق سيّارة يستأجرها من عمّه، وبذلك تكون معيشة العائلة مرتبطة بشكل أساسي بتواجدها في المدينة بسبب كثافة العمل التي توفّرها لسائقي سيارات الأجرة. وهذا البيت المتهالك الذي يقع جزء منه فوق تخطيط لطريقٍ عام يضمن بقاء العائلة في المدينة ويضمن استمراريّة تأمين سبل عيشها. ولكن عائلة أم حسن ليست الوحيدة التي وجدت في ظروف المسكن المتردّية حالة من الاستقرار، ولو أنه مؤقت، فبيت أم حسن القديم في بناية “سعادي” يؤوي عائلة مهجّرة من سوريا تضمّ سبعة أفراد. هؤلاء أيضاً ليسوا الوحيدين حيث أن جميع الشقّق التي أفرغت في بناية “سعادي” أصبحت تسكنها عائلات سوريّة من ستّة أو سبعة أشخاص. ورغم أنّ البناء سيهدم عند إكتمال إخلاء المستأجرين القدامى، فإنّ العائلات المهجّرة الفقيرة وجدت ملاذاً في حالة الهشاشة هذه يمكّنها من البقاء في المدينة، على مقربة من فرص العمل من دون أن يعيق وجودهم في البناء جهود المستثمر بالهدم حيث أن إخلاء هذه العائلات أسرع وأقلّ تعقيداً من إخلاء المستأجرين القدامى اللبنانيين.
إذاً، بقيت أم حسن في الحيّ والعالم حولها هو الذي تغيّر. كمستأجِرة قديمة، كان وجود أم حسن في المدينة مهدداً دائماً بحتميّة الإخلاء، واليوم كمالكة، ما زال وجودها غير محتّم. تعرف أم حسن أن البيت القديم المتهالك الذي اشترته معرّض لأن ينجرف في أي لحظة بالتخطيط المحاذي. إضافة إلى ذلك، بيت أم حسن هو جزء من عقار أكبر، وهي لم تشتر منه إلّا أسهم قليلة. في المقابل، مازال عدد من ورثة العقار يملكون باقي الأسهم وفي حال قرروا بيعه، ستعود إلى الدّوامة ذاتها؛ لن يكون لأم حسن وعائلتها، كما لن يكون لناديا، دور في اتخاذ القرار، وسيكون من جديد مستقبل سكنها محكوماً بالتعويض ثمن الأسهم. اذاً، الحدث الوحيد المحتّم في مستقبل أم حسن هو أن بناية “سعادي” ستهدم وسيصبح بيتها محاذياً لمرآبٍ للسيّارات في بناء جديد، وهلا وأختها والجارات الأخريات سيرحلن من الحيّ والفسحة ستزول أخيراً. فما هي فرص أم حسن بالبقاء في الحي الآن؟ وهل استملاكها جزءاً من عقار هو فعلاً ضمانة لبقائها هذا؟
المراجع
- 1البحث الإجتماعي السريع، بيروت وضواحيها، 2005، مجلس الإنماء والإعمار
- 2قانون 1944 تمديد عقود الإيجار وتحديد بدلاتها
- 3قانون 1982 تمديد أحكام الإيجارات
- 4منذ 1971 أزيلت جميع ضوابط الإرتفاع الأقصى للأبنية وأصبح معدّل احتسابها 2 x عرض الشارع الموازي. وفقاً لقانون البناء الذي أقرّ عام 2004، أصبح العلو الأقصى يحتسب بمعدل x 2.5 عرض الطريق، كما أصبح معدّل الاستثمار يحتسب وفقاً لحجم العقار.
- 5التأجيل ناتج عن ارتباط قضيّة المستأجرين هذه بالقانون الجديد للإيجارات القديمة (2014) وبتعديله (2017) الذي يعلّق قضايا هؤلاء المستأجرين في المحاكم طالما أن لجنة (تخمين) وصندوق (المستأجرين) لم يتشكّلا بعد.*مرجع (مريم مهنا من مفكرة قانونية).