جزء من ملف “إثنوغرافيات الإنهيار، كباقي الوشم في ظاهر اليد“
تتّفق الأزمات الماليّة وغيرها في آثارها السلبيّة على استهلاك الطعام والموادّ الغذائيّة، خاصّة أنّ أسعارها تتأثّر بشكل كبير في ظلّ ارتفاع سعر صرف الدولار، أو من خلال إجراءات حكوميّة بزيادة التعرفة الجمركيّة على البضاعة المستوردة وبزيادة سعر المحروقات الذي ينعكس سلباً على كلّ عمليّات البيع والشراء في البلاد.
ويقابل ارتفاع الأسعار انخفاض قيمة الأجور، بحيث بلغت قيمة الحدّ الأدنى له 65$ (وأقلّ مع تزايد ارتفاع سعر الصرف)، إضافةً إلى عامل البطالة المتزايد. ولا يكتفي الانهيار الماليّ الحاصل في لبنان بتأثيره السلبيّ على قدرة الناس على الوصول إلى المواد الغذائية فقط، بل يتعدّاه إلى ضرب النظام الغذائيّ للمنطقة، بما في ذلك من آثار صحّية على الناس.
يتبع لبنان النظام الغذائيّ المتوسطي المتّبع في معظم دول ساحل البحر الأبيض المتوسّط، ويتكوّن هذا النظام من الحبوب والبقوليّات والخضروات والمكسّرات والفواكه والأعشاب. وبحسب بعض الدراسات، إنّ استهلاك الطعام المدرج في النظام الغذائيّ المذكور، “له خصائص مضادّة للالتهابات ومعدّلة للمناعة، كما يقلّل من استجابة هرمون التوتّر للإجهاد الحادّ”. 1https://link.springer.com/article/10.1186/s13690-021-00775-1
فهل أثّر الانهيار الاقتصادي الحاصل على تغيير شكل الموائد على سفرة الأُسر، خاصة ذات الدخل المحدود منها؟ وكيف تتعامل النساء -وهنّ من يتحمّل، بحسب التقسيم الأبوي للمجتمع، مسؤولية تأمين الطعام والمونة وإنتاجها في العائلات- مع الشحّ المستمرّ للمال من جهة ولمواد الطبخ وسوء نوعيتها من جهة أخرى؟
كان ارتفاع سعر اللحّمة (البقر والغنم والدجاج) كفيلاً بإنقاص كمّيتها في الوجبات الغذائيّة، وباختفائها تدريجياً كعنصرغذائيّ يتصدّر وجبة الغداء مثلاً. وفقاً لتقارير مصلحة حماية المستهلك في لبنان، ارتفع سعر الكيلوغرام الواحد من لحم البقر من 17400 ليرة لبنانية قبل شهر من نهاية 2019 إلى 258000 ليرة لبنانيّة مع بداية العام الحاليّ 2022، أي أكثر من 1450 بالمئة، وهو ارتفاع مماثل شهده سعر لحم الغنم.
تقول بُثينة، وهي سيّدة منزل لأسرة من ستة أفراد، إنّ الوجبات التي تتكوّن من اللحم أو الدجاج اختفت كليّاً، فأصبحت تفضّل أن تستعمل اللحوم كجزء صغير من الطبخة. ولكن، نقصت الكميّة المستخدمة هنا أيضاً: من نصف كيلو في الطبخة الواحدة سابقاً إلى حوالي 200 غرام فقط. كما تُجمع باقي النساء المقابَلات على التصريح نفسه: غياب شبه تامّ لظاهرة شيّ اللحم، ما يعني أنّ الأُسَر ذات الدخل المحدود لم تعد قادرة على تحضير وجبة “المشاوي” بعد الانهيار الماليّ.
مع بداية الانهيار المالي، أصبح لبنان الثاني عالميّاً من حيث ارتفاع سعر ليتر الحليب الواحد (بعد تايوان)، بما يقدّر ب 3.07 دولار أميركيّ2https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2666049021000232. ويعني ذلك ارتفاع تلقائيّ في أسعار الألبان والأجبان عموماً (ارتفعت أسعار الجبنة 100% تقريبا بحسب المصدر نفسه) ما أجبر الأسر ذات الدخل المحدود على الاستغناء عنها، أو استبدالها بأنواع ذات جودة وسعر منخفضين. استغنت زينب، التي تعول ثلاثة أولاد ودخل زوجها لا يتعدّى 3 ملايين ليرة لبنانيّة (75$ كحدّ أقصى)، عن الأجبان، واكتفت بشراء الحليب كلّ فترة وتحضير اللبنة منه. أمّا وفاء، سيّدة أسرة مماثلة، فتقول: “كنّا نشتري الأجبان على أنواعها بكميّات كبيرة وخاصة جبنة الموزاريلا (المستخدمة للطبخ)، كنت جيب نوعية “البوك” للطبخ، هلأ عم جيب كميّة قليلة كتير بلا ما اهتمّ لنوعيّتها”.
أمّا المكسّرات والتي تشكّل أحد عناصر النظام الغذائيّ للمنطقة، فقد اختفت كليّاً في نظام الأسر محدودة الدخل بعد أزمة لبنان الماليّة، أوّلاً كعنصر مضاف إلى بعض الطبخات والحلويات، وثانياً كوجبات ثانويّة. “بطبخة الرزّ على دجاج ما كان يبيّن الرزّ من كتر ما كنت حطّ قلوبات (مكسّرات)، بس بهيدي الأزمة استغنيت عنها وبطلّت حطّها بالطبخ، إذا وقيّة اللوز (200 غراماً) سعرها 60 ألف، إيه بلاها”، هكذا تقول زينب.
“منشتري حسب السعر”، هكذا تصف وفاء شراء نوعيّات المواد الغذائيّة، بعد الارتفاع الكبير في الأسعار نتيجة الأزمة. إنّ تحوّل استهلاك المواد إلى نوعيّات ذات جودة أقلّ ليس نتيجة بريئة للانهيار الماليّ فقط، بل ينعكسُ سلباً على الصحّة، وبالتالي على الوضع المادّي للأسر المتضرّرة. يشير رئيس مصلحة حماية المستهلك زهير برّو إلى ارتفاع كبير في عدد الشكاوى المتعلّقة بجودة الأطعمة والمواد الغذائيّة منذ بداية الانهيار الماليّ في لبنان. يتحدّث برّو عن عمليّات تخزين للموادّ الغذائيّة، وتغيير صلاحيّة استهلاكها لبيعها لاحقاً بعد ارتفاع سعرها: “التجّار خزّنوا المواد، وانتزعت وما بدّن يكبّوها، فعم يبيعوها للناس”. ولكن، في ظلّ الارتفاع المستمرّ للأسعار وغياب القدرة على ضبط عملية الغشّ من قبل التجّار، يبقى لسان حال الأسر ذات الدخل المحدود: “منبرم على الأشياء الأرخص لنكمّل حياتنا”، وفقاً لتعبير ليلى، ربّة منزل في إحدى الأسر المذكورة.
تأخذ “المونة” مساحة كبيرة في الاستهلاك الغذائيّ للأسر ذات الدخل المتوسّط أو المحدود في المنطقة (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن)، فتعمل الأسر كلّ سنة على تحضير كميّات من الزعتر والكشك واللبنة والمكدوس والزيتون والقاورما وغيرها. ولا تتميّز تلك الأطعمة بتحضيرها المنزليّ الخاليّ من الموادّ المصنّعة والحافظة فقط، إنّما تستطيع أن تصمد عاماً كاملاً على الأقلّ، دون الحاجة إلى عمليّة حفظ مكلفة. وكانت هذه الأطعمة، سابقاً، أطعمة شعبيّة، تحتوي على ما تستطيع إليه الأسر المتواضعة من العناصر الغذائيّة حتّى تؤمّن فطورها اليوميّ، كالمكدوس مثلاً، القادر على تكوين وجبة كاملة بمكوّنات بسيطة (باذنجان، جوز، فليفلة). نظريّاً، تشكّل قدرة المونة على توفير الكهرباء أو اعتمادها على مكوّنات رخيصة ومتواجدة في كل المناطق، محفّزاً للجوء الناس إليها في الأزمات الماليّة وأزمات الكهرباء، كالحالة في لبنان. فمع انقطاع شبه كليّ للكهرباء في معظم المناطق اللبنانيّة، وغلاء أسعار الاشتراك في مولّدات كهربائيّة في الأحياء والمناطق، تلجأ العائلات إلى توفير المال والبحث عن بدائل غذائيّة لا تفسد بعد ساعات قليلة من انقطاع الكهرباء. عمليّاً، يقابل ذلك ارتفاع الأسعار الذي أثّر تلقائيّاً على مكوّنات “المونة”.
خلال سنتين (أي بين بداية عام 2020 وبداية العام الحاليّ) ارتفع سعر كيلو الباذنجان من 1600 إلى 18750 ليرة لبنانيّة، أي أنّ قيمة الكيلو حاليّاً كانت قادرة على شراء ما يقارب 11 كيلو من الباذنجان قبل سنتين. أمّا أسعار المكسّرات ومن ضمنها الجوز فطالها ارتفاع أكبر من ذلك. وبهذا، مع الانهيار المالي في لبنان، أصبحت الأكلة الشعبيّة أغلى من قدرة الأسر محدودة الدخل. في سوريا، ومع ارتفاع الأسعار خلال الحرب، كان لاختفاء “المكدوس” عن موائد الأسر صدى كبيراً، والحال تتكرّر اليوم في لبنان. أوقفت زينب تحضير المكدوس السنويّ بسبب غلاء الجوز وزيت الزيتون، الذي يضاف إلى معظم الأطعمة المحضّرة في النظام الغذائيّ للمنطقة. ومع ارتفاع سعر التنكة منه، أصبحت وفاء تستبدل التموين السنويّ من ثلاث “تنكات” إلى تنكة واحدة، مع التأكيد على عدم اهتمامها بالنوعيّة، بغية توفير المال. الحال نفسها تنطبق على تحضير اللبنة، فسعر ركنيها الوحيدين (اللبنة وزيت الزيتون) فاقا القدرة الشرائيّة للأسر المذكورة. استغنت ليلى عن شراء الكشك (الذي تخطّى سعر الكيلو منه 150 ألف ليرة لبنانيّة)، أمّا زينب فأصبحت تحضّر بعضاً منه في منزلها، وفرة من شرائه. ومع أنّ بعض الأسر ما زالت تلجأ إلى المونة، بسبب أزمة الكهرباء وبسبب قدرتها على تشكيل وجبات غذائيّة تشبع أفراد العائلة، إلّا أنّ اعتماد المونة بديلاً يبقى مهدّداً يوماً بعد يوم مع الارتفاع المستمرّ للأسعار، ومع انخفاض قيمة الأجور.
ربّما ما زالت بعض الأسر قادرةً على تأمين بعض الأطعمة والفواكه والخضار، عبر شراء تلك التي فسدت فقلّ سعرها، وبالتالي تفضيل النوعية والسعر المنخفضين كوسيلة صمود واستمرار في ظلّ الانهيار الحاصل، ولكن ذلك يعني أوّلاً تأثيراً صحّيّاً سلبيّاً عليها. تشير دراسات أجريت في اليونان عقب الانهيار الماليّ الذي بدأ عام 2010، إلى أنّ انخفاض قيمة الأجور هو أحد المحدّدات الأساسيّة للآثار السلبيّة على الصحة العامة، بحيث أنّه يرتبط بانخفاض في الاستهلاك الغذائيّ.3https://academic.oup.com/eurpub/article/23/2/206/683351 إن تفضيل النوعية والسعر المنخفضين كوسيلة استمرار، بما في ذلك من “إدارة للموارد” وتطبيق لميكانيزمات التأقلم مع الأزمات والانهيار، يهدّد النظام الغذائي المحلي، من حيث تقليص الاستهلاك الغذائي اليومي للأسر والأفراد، وضرب التنوّع الغذائي.
من ناحية أخرى، يبدو أن عدداّ متزايداً من الأسر محدودة الدخل أصبحت تزرع الخضار الأساسية المستخدمة يومياً على المائدة أو في السلطة – من بندورة، خس، بقدونس، خيار، بصل، ثوم، باذنجان، كوسى، بازيلا، لوبيا، حمص، فول وملوخية-، في “الحاكورة” حول المنزل، وهو ما لم تكن تفعله قبل الانهيار، أو بدأت تزرعها في جزء من الأرض التي كانت تزرعها قبلاً زيتوناً وقمحاً وغيرها من المزروعات التي تبيعها.
وقد عبّرت العديد من النساء عن عدم نجاحها في إنتاج هذه الخضار بشكل مستمر، وذلك بسبب سوء نوعية البذور من جهة، أو سوء الأحوال الجوية خاصة نتيجةً للاحتباس الحراري. كما عمدت بعض العائلات إلى تخزين البذور التي أنتجتها، بدلاً من شراء الشتول؛ وأصبح الاعتماد على “زبل” الدجاج والبقر بديلاً عن الكيماوي، في ممارستين تقودهما الحاجة إلى توفير المال، لكنّهما أيضاً -وبشكل مفاجئ وغير مقصود وغير مخطّط له بالتأكيد من قبل وزارتي الزراعة والبيئة- أكثر مراعاة للبيئة والأرض والصحة.
وأخيراً، فيما لا يجب أن تقع مسؤولية تأمين الغذاء على الأفراد، لا بشكلها الأساسي ولا البديل، هناك من يتحمّل ما آلت إليه الأمور اليوم. فقد أدّت التوجّهات الاقتصادية للسلطة في لبنان، وبالذات السياسات العامة، إلى تدمير سُبل العيش في المناطق، عبر تفقير المزارعات\ين وتصعيب وصولهن\م إلى الأرض، وجعلهن\م مرتبطات\ين بشركات الأسمدة والحبوب من جهة، وفصلت المدن عن القرى بشكل تام من جهة أخرى، حتى أصبح سكّانها جاهلات\ين لما يحصل على مستوى إنتاج غذائهن\م، غير قادرات\ين على المشاركة فيه.
ويظهر تفاقم هذه المشكلة واضحاً، بحيث أن قطاع الخدمات والريع العقاري يساهم بحوالي 77% من مجمل الاقتصاد اللبناني، أي أنّنا نجحنا بإنتاج اقتصادٍ مدينيٍ بامتياز، يهمّش لا المناطق فحسب، بل النمط الريفي كطريقة حياة وإنتاج وثقافة.
من أجل الصمود خلال الأزمات الاقتصادية، تبحث الأسر والأفراد عن بدائل تتماشى مع وضعها الماليّ وحالة البلاد. ولكن مع تفاقم الأزمات المذكورة، يمكن للبدائل حتى أن تفوق القدرة الشرائيّة والحياتيّة للأسر والأفراد، ما يضعُ النظام الغذائيّ لذوات وذوي الدخل المحدود على المحكّ، مفسحاً المجال أمام تهديد صحيّ حياتي واجتماعي يتمظهر في تهديد النظام الغذائي الموروث وخلخلته من حيث نوعية الطعام وقيمته الغذائية وتنوّعه وكميته. كما تستطيع الأزمات وإدارة الدولة لها أن تُظهِّر انسحاب هذه الأخيرة من دورها في تنظيم الأراضي الزراعية والإنتاج الزراعي من جهة، والتأكد بأن الحصول على الغذاء المتوازن والآمن والصحي، حق لكل الناس.
المراجع
- 1
- 2
- 3