على منحدر يطلّ على ضفاف نهر أبو علي في طرابلس، وبين أدراج طويلة، يقع حيّ “ضهر المغر” ذو النسيج العمراني القديم والمترابط. هو الحي الذي بات اليوم يضم عشرات المباني المتآكلة إلى حد الانهيار، وحيث أودى سقوط مبنى بحياة طفل رضيعة منذ أسابيع قليلة.
يشهد الحي تدهوراً في البيئة المبنية. مع الوقت، أُضيفت إلى المباني إنشاءات عمرانية لتلبية حاجات آلاف الأسر المعدمة والفقيرة، ولم تخضع مبانيه لأي عملية ترميم أو تأهيل منذ عقود. تسكنه عائلات معظمها من المستأجرين، لا قدرة لهم على الانتقال الى سكن بديل، ما يجعلهم عرضةً للموت تحت أنقاض منازلهم في أي لحظة.
نقدّم لكن\م قصّة أحد هذه المباني التي يشعر قاطنوها بعدم الأمان، ممّا دفعهن\م لتبليغ حالتهم لمرصد السكن.
تلقّى وليد، في نهاية عام 2019 إنذاراً من مصلحة الهندسة في بلدية طرابلس، يفيد بوجوب إخلاء سكان مبنى يملكه بشكل فوري، وذلك لوجود مشاكل إنشائية فيه، تشكّل تهديداً على السلامة العامة وسلامة السكان. جاء الإنذار بعد أن أبلغته قريبته العاملة في بلدية طرابلس أنّ البلدية بصدد القيام بردة فعل على مشكلة انهيار المباني في المدينة، وأنّ ملف عقار جدّه “سيتحرّك”. ونصحته بالبيع استباقاً لتدابير قد تفرضها البلدية بحجّة عدم الترميم، كالتخيير بين الترميم أو البيع.
يعود تشييد المبنى إلى الفترة العثمانية، وقد تهالك مع الزمن بفعل الإهمال. رغم احتوائه على سبع شقق، تسكنه أربع عائلات بإيجار قديم. يدّعي المالك أنه توقّف عن قبض الإيجارات منذ عامين نظراً لتآكل منشآت المبنى وأنه وجد من يشتري المبنى، فحاول عرض المغادرة على المستأجرين مقابل مبلغ من المال. في البداية وافقوا جميعاً خوفاً من وضع المبنى الإنشائي، ولكن قبل التوقيع على الأوراق، غيرّت إحدى المستأجرات رأيها.
تروي المستأجرة فاتن نسخةً أخرى للأحداث. فتخبرنا بأن المبنى توزّع على عدّة ورثة بعد وفاة مالكه الأساسي، وتعذّر الفرز فتعسّر بدوره بيعه بالمفرّق. حينها، قرّر وليد منفرداً، تنصيب نفسه ممثلاً عن باقي الورثة للتفاوض مع المستأجرين بضرورة إخلاء المبنى لخطر انهياره، عارضاً على كل عائلة مبلغ 20 مليون ليرة كتعويض. قام وليد بالتفاوض معهم مكرّراً على كلّ من يرفض الرحيل بأن باقي المستأجرين وافقوا على الإخلاء “ولم يبقى إلّا أنتم”.
تسكن فاتن المبنى منذ أكثر من 45 عاماً، ولها ذكريات عديدة في الحي. كما وأن وضع عائلتها الاقتصادي – وهي عائلة مؤلفة من 8 أفراد – لن يمكّنهم من إيجاد سكن بديل، خاصةً وأن التعويض المعروض عليهم ضئيل جداً. تذكر فاتن بأن الخلاف ليس الأوّل من نوعه. إذ حاول أحد الورثة الآخرين سابقاً إخلاء المبنى مستعملاً القوّة، ثم تراجع وعاود استلام بدل الإيجار بانتظام على مدى عدّة سنوات.
عند التحقيق في الموضوع، تبيّن أن المبنى بالفعل عليه إنذار بالإخلاء من البلدية، يرد عليه تواقيع وليد (أحد المالكين) وثلاثة من المستأجرين، من بينهم إبنة فاتن. وقد قام وليد برفع المسؤولية عنه في حال انهيار المبنى بعد إصرار المستأجرين على البقاء فيه، عبر إرسال إنذار مُصدّق من كاتب العدل، يطلب توقيع المستأجرين عليه ليكون بالتالي تخلّص من المسؤولية ووضعها على عاتقهم.
ضهر المغر مثالٌ عن العديد من المباني والأحياء التي يقوم فيها المالكون والسلطة بالتخلّي عن مسؤوليتهم في تأمين مساكن آمنة وصحية. وكما في العديد من الحالات الأخرى، قد “يقرّر” السكان البقاء في منازلهم بعد تبليغهم بأن المبنى معرّض للانهيار. لكن خيارهم بالبقاء هو في الحقيقة غياب الخيار: بين البقاء في الشارع والخروج من المنازل نحو المجهول، يختار الناس سقفاً يحميهم، حتى ولو لحين. إن اعتبار خيار الانتقال من البيوت المهدّدة بالانهيار، في يد السكان هو غض نظر عن الوضع الاجتماعي الاقتصادي للمستأجرين، خاصة وأن معظمهم من طبقة اجتماعية مفقّرة.
لطالما استُخدمت قضية المباني المتهالكة والمتدهورة كذريعة لإخلاء السكان وتهجيرهم من أحيائهم ومدنهم، وفي حالات كثيرة بتواطؤ مع السلطات العامة. من هنا، جاء تدّخل مرصد السكن عبر التعاون مع مهندسين ذوي الخبرة والاستقلالية، لإجراء كشف إنشائي طارئ وتقديم تقرير حول الحلول الممكنة – والمتابعة للتأكّد من أمان السكّان وسلامتهم.
للتأكيد على مسؤولية البلدية في هذه الحالة والعديد من الحالات المشابهة، تم إطلاق عريضة سيتم تسليمها للجهات المعنيّة والضغط بشكل جماعي تجاه حل هذه الأزمة في طرابلس.
مرصد السّكن هو أداةٌ سكنيةٌ مجتمعيةٌ طوّرها استوديو أشغال عامة لحماية وتحسين حقوق السّكن في لبنان. يستخدم هذه الأداة سكّانٌ من مختلف الجماعات المهمّشة للإبلاغ عن ظروفهن\م السّكنية الصعبة أو ما يواجههن\م من تهديداتٍ بالإخلاء. استجابةً لتلك البلاغات، يوفّر استوديو أشغال عامة دعماً قانونياً واجتماعياً لكلّ حالةٍ وفق الحاجة، ويحشد المستأجرات\ين حول التحدّيات المشتركة، كما يرصد أنماط المظالم السّكنية من أجل التضامن لتحقيق الإصلاحات اللازمة.
للإبلاغ عن ظروفٍ سكنيةٍ صعبةٍ أو حالات تهديدٍ بالإخلاء، يمكن الاتصال بنا على الرقم 023 017 81 961+ أو عبر أو مراسلتنا على info@housingmonitor.org