لم يكن الاستعمار يوماً -خاصة في فلسطين- عملية عسكريةً فقط، بل هو في جوهره سردية تسعى إلى طرح الاستعمار كحقيقة تاريخية، تكذّب حتى الوجود المكاني للجماعات التي سكنت الأرض قبلها، نابعة من الحق الطبيعي (الإلهي) للرجل الأبيض بالأرض والموارد والناس. الاستعمار هو في جوهره إذاً قصّة مختلفة عن الأرض، لا تسمح بوجود أي قصة غيرها: تأتي لتمحو ما كان قبلها ومن كان قبلها.
من الضروري بدايةً أن نفهم أن غزة ك”قطاع” هي قصة ومكان خلقه الاحتلال الاستيطاني، وبتره عن محيطه والجذور الحيوية التي يتغذّى منها، وتلك التي يغذّيها. فحتى أربعينيات القرن الماضي، كانت مدينة غزّة محاطة بقرى داخلية تزرع المحاصيل البعلية والحبوب، وقرى ساحلية تزرع الفواكه والخضروات المروية، وكانت بالتالي، تربط فلّاحي محيطها هذا بالتجّار في يافا. ويشكّل خلق “القطاع” تقطيع أوصال هذه العلاقات الاجتماعية الاقتصادية تماماً بعد سنة 1948، حينما كانت هذه الأماكن والعلاقات كلّها، تتخطّى الشكل والحدود الحالية لما سمّاه الاحتلال “قطاع غزّة”.
“لقد تقلّصت مساحة غزة ومحيطها في نفس الوقت،” تكتب ريما حمامي، “من 28009 كيلومتر مربع إلى 365 كيلومتر مربع فقط، في حين تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات. إن قطاع غزة هو ما تبقى بعد تدمير الحياة الزراعية في جنوب فلسطين.” ماذا استخدم الاحتلال أيضاً ليغيّر مناطق فلسطين ويجزّئها، ليقتطع الذاكرة عن ما يحتويها ويفتفت المكان ويقتله؟
يُستخدم مفهوم “التجزئة\التشظية” fragmentation للدلالة على تقسيم المناطق والأحياء وفصلها فصلاً ممنهجاً عن بعضها البعض. تعزل هذه العملية الجماعات المحتلّة عن بعضها البعض، تمنعها من العيش في مناطق معينة والتنقّل بينها، كما تخلق بتراً اجتماعياً اقتصادياً وتدفع للمزيد من الاعتماد على اقتصاد الاحتلال.
نطلق اليوم ملفاً متدحرجاً، نسعى لكي يكون مساحةً لفهم ما جرى ويجري في غزّة على المستوى السياسي المكاني والاجتماعي. تكتب غَيَد الخطيب في مقالَين، عن أحياء غزّة ومعالمها والمواقع الأساسية فيها، وكيف استهدفها الاستعمار الاستيطاني الاسرائيلي في محاولته محو ذاكرة أهلها في المكان. وتكتب يارا رمضان من التعاونية الهندسية في رام الله حول الإبادة المكانية في غزة وإعادة الإعمار. كما يحكي ماجد دغلاس من التعاونية أيضاً عن الميناء العائم كتكتيك سياسي عسكري.
مع الحرب تصبح الحاجة للاستمرار والنجاة والبقاء شبه بيولوجية، فتأتي محاولات إثبات الوجود بكل الأشكال الممكنة، إحداها نُظهره هنا، من خلال تفريغ إسقاطات الرواية الاستعمارية على المكان: الفلسطينيات\ون هنا، وغزّة، أرضهم كذلك، هذه هي
معالمها وأحياؤها.
المراجع: