لا نحتاج كمستأجرين جدد إلى كثير من الوقت في بيت جديد ليكون لنا ما نخسره حين نغادر، سواء مضطرين أو مكرهين أو لأنّ طريق الحياة تأخذنا بعيداً. لا نحتاج إلى أكثر من أشهر قليلة لنبني علاقة معه ومع محيطه، لتصبح عاداتنا مرتبطة به وبموقعه ولتصير الوجوه في الحي مألوفة، ولنعرف كل الطرق التي تؤدي إليه، المختصرة والطويلة، ولنعاين كلّ مصادر حاجياتنا اليومية، ولنعرف البائع “الغلوجي” من البائع الآدمي.
وكلّما تركنا بيتاً وانتقلنا إلى بيت آخر نعيد كل شيء من البداية كي نخسره مجدداً في رحيل جديد.
كمستأجرين قدامى، يصبح خروجنا أو إخراجنا من البيت أصعب. فهنا ولدنا ربما أو بنينا حياتنا الجديدة مع شركاء لنا وعشنا حياتنا وحياة غيرنا. وانتقالنا من البيت القديم يشبه الانتقال إلى عالمٍ موازٍ. سنعيش في بيت جديد ولكنّ حياتنا كلّها ستبقى تدور حول بيتنا القديم. ستبقى أمّهاتنا يتبضّعن من الحي القديم، وسيبقى آباؤنا يقصدون حلاق الحي نفسه، وسنعود نحن أيضاً إلى الحي بحجج مختلفة كما نعود دائماً إلى مدارسنا القديمة.
علاقتنا ببيوتنا علاقة اقتصادية وعاطفية في آنٍ معاً. فنحن من ندفع ثمنه أو إيجاره، واخترناه على أساس قدرتنا وميزانيتنا وبالطبع المنطقة التي يقع فيها وما قد يكشفه ذلك عن شخصياتنا أحياناً وأفكارنا وأهوائنا.
لذلك فإنّ رفض المستأجرين لا سيما القدامى منهم إخلاء منازلهم لسبب أو لآخر له أسبابه الاقتصادية طبعاً ولكن العاطفية أيضاً، فإخراج شخص من بيته الذي عاش فيه عمره كلّه يعادل سلبه حياته. لذلك تطول النزاعات بين أصحاب الملك والمستأجرين، ولكلّ منهم حقوق لا يراعيها كليّاً قانون الإيجارات الجديد.
بناية راس بيروت ١٩٨٠ نموذجاً
بناية راس بيروت ١٩٨٠ هي واحدة من أبنية كثيرة في بيروت هُجّر ناسها ولكنها أيضاً نموذج ينطوي على جميع عناصر قصص الإخلاء الممكنة: بناء قديم يضم مستأجرين قدامى وجدد، شركة عقارية تشتري المبنى وتستحصل على رخصة من البلدية لترميمه فوق رؤوس ساكنيه، مستأجرون جدد يغادرون مكرهين تحت ضغوط شتّى من ضجيج وغموض وتهديد، مستأجرون قدامى عاشوا حياتهم في المبنى يرفضون المغادرة ويخوضون مفاوضات طويلة مع الشركة العقارية، منهم من يقبل بالقليل ويغادر ومنهم من يبقى في المبنى شوكة في عين الشركة.
شيّد محمود شاتيلا البناء – المؤلف من ٨ طوابق ويحتوي على شقتين أو ثلاث في الطابق – الذي تبلغ مساحته حوالي 300 متر مربع عام 1968. وهو غير مفرز وكل العقود وقّعت على أساس سندات. باع شاتيلا المبنى لشخص سوري يدعى وليد مصطفى الدبّاغ وشركاء له عام 1974 عبر وكيل العائلة المحامي رامز عيد. وعام 2006 اشترت شركة محمود أسّومة أو “راس بيروت ١٩٨٠” المبنى من ورثة الدبّاغ واستحصلت في آذار 2018 على تصريح من بلدية بيروت ينص على أن هدف الورشة “ترميم واجهات وهدم وإعادة بناء قواطع داخلية غير حاملة وفقاً للخرائط مع توريق وتبليط وطرش ودهان وتمديدات صحية وكهربائية مع المحافظة على الشبكة العامة وتدفئة وتبريد وديكور واستبدال السقف الباطون القديم على السطح الأخير بسقف باطون جديد على نفس الارتفاع”.
ولكن التصريح الذي أعطي لمدة سنة، ينصّ أيضاً على أن تراعي الشركة في أعمالها “حقوق الغير” وهو ما لم تلتزم به. فقد شرعت بعد الحصول على الرخصة بتصليح الواجهة وبأعمال الترميم بدءاً من الطابق الرابع بعد أن غادر سكانه ثم في الطابق الخامس. وتسببت منذ ذلك الحين بمعاناة للسكّان جعلت حياتهم في المبنى لا تحتمل ما اضطر المستأجرين الجدد للمغادرة الواحد تلو الآخر وقبول المستأجرة القديمة ريما مدوّر بتعويض قليل نسبياً لتغادر هي الأخرى. فالتكسير والهدم وقلع البلاط والآلات التي استعملت في الورشة لا سيّما “الكومبريسور” تصدر أصوات عالية جداً وتسبب ضجيجاً لا يحتمل. يضاف إلى ذلك التشققات التي ظهرت في بعض الشقق لا سيّما شقة ريما والتي تسببت بتسرّب كبير لمياه الأمطار في البيت، كما تظهر مقاطع فيديو نشرتها ريما على صفحتها على فيسبوك. كل ذلك ترافق مع شتّى أنواع الضغوط لإخراج السكّان خصوصاً أنّ مدّة التصريح سنة.
الترويج للهدم والأخبار الغامضة
بدأت القصة بحسب السكّان عام 2016 حين أخذت الشركة تروّج لمشروع هدم المبنى وحضر مخمّنون إلى الشقق لتحديد أثمانها، ولاحقاً غادر آل شاتيلا الذين كانوا يشغلون الطابقين الأول والثاني. وبحسب بعض السكّان كانت الشركة بالفعل تريد هدم المبنى ولكنها لم تفلح في الإثبات بأن البناية تحتاج إلى الهدم. ويشير البعض الآخر إلى تعدّي البناية على الطريق باعتباره سبباً في تراجع الشركة عن الهدم لأنه سيجعلها تخسر مساحة من الطريق. ولكن في جميع الأحوال يُجمع السكان على أنّ المبنى جيّد من الداخل وأن الشقق لا تحتاج إلى أكثر من دهان وتنظيف بلاط وأنّ الواجهة هي الشيء الوحيد الذي كان يحتاج إلى تغيير خصوصاً أنها لا تنسجم مع الهندسة الداخلية ولا الحالة الجيدة للمبنى من الداخل.
وإذ اتّخذت قرار الترميم، بدأت الشركة تسعى للحصول على تصريح بذلك من البلدية. وتزامن ذلك مع بدء أعمال صيانة للواجهة لم تدم طويلاً ولكنّها كانت كافية للتنغيص على السكّان عبر نشر الغبار في شققهم والباطون على شرفاتهم. وشرعت الشركة أيضاً بأعمال صيانة مماثلة مرة أخرى في أيلول 2017 لم تطل كثيراً أيضاً.
تقول كارين ضومط(تعمل في مجال مونتاج الأفلام) التي كانت تسكن في السادس، إنّ “الغموض حول مصير المبنى كان أوّل سلاح استعملته الشركة بدءاً من عام 2016 مع انتشار خبر نيّة الهدم. واستمرّ الغموض في أيلول 2017 حين أعيدت الدعائم الخارجية وبدأ ‘نفض’ الشقق التي تخلو حيث كان دور الطبقتين الأولى والثانية أولاً. حينها قال لنا أسّومة إنه يقوم بتصليح بعض الشقق وسينقلنا إلى إحداها ثم يعيدنا إلى شقتنا”.
التهديد المباشر والمعاملة الذكورية
ومع بدء أعمال التكسير والهدم والتقسيم في الطابقين الرابع والخامس في العام الحالي مع حصول الشركة على الرخصة من البلدية، بدأ أسّومة ينوّع رواياته حول مصير المبنى فيقول تارةً إنه يرمم ويصلّح ويجدد التمديدات وطوراً إنّه سيقسّم الشقق، ولكن في نهاية المطاف تبيّن فعلاً أنه يقسّم. ولاحقاً تضيف كارين: “بدأت الشركة تطلب دخول العمّال إلى الشقة لإجراء تصليحات ونحن فيها. وكانوا يتحججون دائماً بمدّة الرخصة. وحين رفضنا علقوا ورقة في المدخل بأنّهم سيقطعون المياه إن لم نسمح لهم بدخول الشقق”.
التهديد المباشر كان طريقة ضغط أخرى استعملتها الشركة وجاء بأشكال عدّة بينها التهديد عبر الناطور سامي. تقول كارين إنّ التهديد الثاني جاء من أسّومة عبر رسالة صوتية من الناطور الذي هو أيضاً سائقه الخاص قال فيها “أنّنا إن لم نسمح لهم بالدخول إلى الشقة فسيرفعون دعوى”. ونتيجة كل هذه الضغوط من غموض وتهديد، رضخت كارين لأنّها فقدت القدرة على الاحتمال وكانت اتخذت قرار البحث عن بيت جديد. وبالفعل دخل العمال إلى الشقة أثناء تواجدها فيها وبنوا جداراً «مؤقتاً» في الصالون. قررت كارين مغادرة الشقة قبل انتهاء العقد لأن الوضع لم يعد يطاق، حيث الأعمال في الورشة تبدأ عند الثامنة والنصف وتنتهي عند الثالثة والنصف يومياً مع كل ما تحمله من أوساخ وإزعاج وضجيج لا يحتمل خصوصاً أن كارين تعمل من المنزل في مجال مونتاج الأفلام. وطبعاً يضاف كل ذلك إلى عدم وضوح خطة الشركة تجاه الشقق. حتى أنه تم تأجير الشقة المقابلة قبل أسبوعين أو ثلاثة من بدء أعمال التكسير!
ولم يكتف صاحب الملك بالتهديد والإزعاج على ما تقول ت. خ. (فنانة مسرحية) التي كانت تسكن الطابق الثالث مع زوجها الذي يقضي معظم أيامه مسافراً، بل بالمس بسمعة الساكنين، ففي حالتها وحين اتصلت محاميتها بصاحب المبنى لتحتجّ على أن البناية لم تعد مكاناً آمناً للسكن بسبب الورشة وبسبب انتهاك الخصوصية عبر دخول العمال إلى الشقق أثناء تواجد السكان فيها، كان ردّه بأن ت. خ. تكذب بشأن وضع البناية والشقة. فما كان من المحامية إلّا أن أكدت له أن بحوزتها صوراً تثبت كلام موكّلتها عن الورشة ودخول العمال إلى الشقق عبر الشرفات. وردّ مدعياً بأن لديه أيضاً صوراً تثبت أن أحد السكان (وهو صديقها وصديق زوجها وكان قد سكن المبنى قبلهما) بات الليلة لديها. اعتبرت المحامية هذا الإدعاء بمثابة تشهير وينمّ عن منطق ذكوري بغيض. واكتشف السكان بأنّ صاحب الملك ينشر فعلاً كاميرات مراقبة في المبنى وحوله متصلة إلى هاتفه المحمول.
احتجاجات بلا جدوى
بعد بدء أعمال التكسير أخذت المياه تتدفّق عبر التشققات في سقف شقة ريما مدوّر وجدرانها، فاشتكت لدى النيابة العامة وتسببت بما وصفه مسؤول الورشة الملقّب بأبو ربيع الذي يعمل مع أسّومة بـ”صداع” للشركة. ولكن النيابة العامة لم تحرّك ساكناً، فاتّصلت ريما بالدرك أكثر من مرة واستطاعت أكثر من مرة أن توقف العمل مؤقتاً في الورشة. ولكن كلّ ذلك لم يفلح في إيقاف المشروع نهائياً.
يقول المحامي فراس علام إنّه كان على السّكان اللجوء إلى البلدية وليس إلى النيابة العامة ولا إلى الدرك، فالتصريح صادر عن البلدية وهو يلحظ بشكل واضح أنّ على الشركة أن تراعي حقوق الغير أثناء العمل في الورشة. وبالتالي، كان يمكن الإثبات بأنّ الشركة تنتهك التصريح من خلال عدم مراعاتها حقوقهم ما يقود إلى تعليق العمل في الورشة.
إذاً كان إحساس كارين في محلّه، “أشعر الآن أنّه كان يمكننا أن نفعل شيئاً لنوقف الورشة. ولكنّنا كنا منشغلين بحياتنا وكلّ منّا كان يريد الإسراع في المغادرة باعتبار أنّ الأمر محسوم وأصحاب الشركة لديهم ثقل لدى السلطة”.
رواية الشركة
لا يعترف أبو ربيع حتى الآن بأنّ الشركة تقوم بتقسيم الشقق ويصرّ أنّ المشروع يهدف إلى تحسين البناية من الداخل والخارج لتصبح قابلة للسكن رغم تأكيد كل المستأجرين الجدد أنّ البناية كانت “منفوضة” من الداخل وأنّهم كانوا يدفعون إيجارات عالية مقابل ذلك وأنّ الواجهة فقط كانت قبيحة ولا تتناسب مع البناية من الداخل.
ولدى سؤالنا أبو ربيع عن سبب رحيل المستأجرين الجدد مثلاً قبل انتهاء عقودهم طالما أنّ الموضوع “تصليحات”، لا يعطي جواباً. ولدى طلبنا زيارة الورشة لكي نرى “التصليحات” يرفض “كي لا نحرجه”. ولكنّه يشرح أنّ الشقق في البناية الجديدة ستكون فقط للإيجار وليست للبيع وأنّ الإيجارات الجديدة ستكون مرتفعة جداً في البناية لأنّها ستكون “دولوكس”. هذا هو المشروع إذاً: تقسيم البناية إلى شقق أصغر وتجديدها وتأجيرها بأسعار مرتفعة أسوة بمعظم مشاريع السكن المؤقّت في راس بيروت: أبنية سكنية يعاد ترميمها وتقسيمها إلى شقق للإيجار أو أبنية جديدة تشيّد على هذا الأساس لتضمّ شققاً صغيرة للإيجار.
بناية راس بيروت ١٩٨٠ وناسها
لبناية راس بيروت ١٩٨٠ قصة أخرى لا بل قصص أخرى، قصص ناسها وعلاقتهم بها وببيوتهم فيها وبمحيطهم وبخياراتهم وبتحوّلاتهم وبعاداتهم الجديدة ومناسباتهم التي شهدتها هذه الأماكن التي اختاروها عن سابق إصرار وترصّد. فأن تختار راس بيروت كمكان للعيش وبناية كبناية راس بيروت ١٩٨٠ التي تتميّز عمارتها من الداخل بطابع قديم حيث السقف عالٍ وديكوراته الداخلية تتسم بلمسة فنيّة، وبلاطه جميل، هو بحد ذاته موقف يخبر الكثير عنك.
الطابق الثامن باسل قاسم (رئيس جمعية عِرب)
(أيلول 2014 . نيسان 2018)
لا تختلف قصة باسل الذي كان يسكن الطابق الأخير من المبنى أي الثامن، مع الورشة واضطراره للمغادرة كثيراً عن رواية كارين. فقد استأجر في أيلول 2014 وشهد على مشروع تصليح الواجهة الذي لم يُستكمل، والخطط الغامضة التي روّجت لها الشركة للبناية. وأخيراً الورشة الجذرية التي انطلقت فوق رؤوس السكان.
يقول باسل إنّ أسّومة مهندس في بلدية بيروت لذلك استطاع الحصول على إذن بالترميم رغم وجود الناس في المبنى، وأنّ العمل في الطابقين الرابع والخامس حصل مرّتين بعد أن تم تبديل الخرائط عن طريق الخطأ. وأكد أن الورشة لم تكن عادية بل ورشة جذرية أي تكسير جدران وقلع بلاط وإعادة بناء، لذلك كان العمل يتم أغلب الوقت بالكومبريسّور. فأصبح المبنى غير قابل للسكن. ونتيجة لكلّ ذلك قرر المغادرة في أواخر نيسان 2018 قبل انتهاء مدة العقد، ورغم أنّ أسّومة قال له إنّه يمكن أن ينقله إلى شقة أخرى إلى أن ينتهي العمل في شقّته، غير أنّه رفض لأنه لم يعد يطيق البناية: “الورشة والمشاكل جعلوني أكره البيت ولا أصدّق أن يحين موعد رحيلي منه”.
لماذا راس بيروت؟
“سكنت في السابق في الحمرا، أحبّ هذه المنطقة إجمالاً لأنّي أحب الناس فيها، أناسٌ لا يسألون من أنا، أناسٌ يشبهونني، أناس من لوني. كانت البناية جميلة جداً في البداية، لديها سطيحة كبيرة جداً وأحواض ورد. تبعد دقيقة عن البحر”.
ماذا يعني لك السّكن في راس بيروت ١٩٨٠؟
“هذا البيت غيّر موقفي من البيوت، كان البيت في البداية بالنسبة لي مكاناً للنوم، ولكن في راس بيروت أصبحت أقضي وقتاً أطول في البيت، أعتني بالنباتات، أفرز النفايات وأطمر العضوية منها في الأحواض. أصبحت أدعو أصدقائي إلى السطيحة حيث نقيم حفلات الشواء والسهرات”.
ماذا خسرت؟
“خسرت السطيحة في البيت الجديد، لديّ بدلاً منها سطح، وخسرت “الزرّيعة”، وضعتها في الشارع حين غادرت إذ لم أستطع حتى أخذها معي. في السابق في الحمرا سكنت شقة صغيرة وقبيحة وكان الجيران سيئين. الآن أسكن خلف المنارة القديمة، أي على بعد شارعين من البيت القديم ولكنّ الحي أهدأ وليس على شارع عام كالبناية القديمة.
لست حزيناً لأنّي غادرت. أستغرب أحياناً كيف لا أحزن حين أغادر بعض الأماكن التي أعيش فيها. ولكنّ ربما لأنّ المشاكل التي تدفعني إلى المغادرة تجعلني أنسى الجانب المضيء من القصة، أو ربما، في حالة بيت راس بيروت، هو انفصالي عن صديقتي الذي زاد من رغبتي في الانتقال إلى بيت جديد ليكون بداية جديدة”.
الطابق السادس كارين ضومط وغسان سلهب (أيار 2015 . أيار 2018)
أحبّت كارين بيتها في راس بيروت ١٩٨٠ إلى درجة قررت في نهاية قصّتها مع الشقة أنّ عليها من الآن فصاعداً أن تحبّ البيوت أقل.
روت كارين القصة كأنّها تجيب عن أسئلتنا بالترتيب من دون أن نضطر لطرحها “اخترنا راس بيروت لأننا كنّا نريد العيش في منطقة مختلطة دينياً وطبقياً وفكرياً. المبنى الذي وجدنا فيه الشقة كان قديماً نسبياً ولكن ليس كثيراً ولم يكن من الخارج جذاباً إذ كان من الواضح أنّه تمّ “تغيير” واجهته فأصبحت قبيحة وفوجئنا بالشقق من الداخل جميلة، سقفها عالٍ، بلاطها أصفر وأحمر. وكانت شقة واسعة: غرفتا نوم وتوابعهما. وصودف أنّ المستأجرة القديمة التي كانت قبلنا كسّرت البيت قبل رحيلها بعد خلافات مع أصحاب الملك، لذلك كانت الشقة مجددة من الداخل”.
ما الذي غيّره فيك بيت راس بيروت؟
“في بيت راس بيروت تغيّرت الكثير من الأمور في حياتي، في عاداتي، في سلوكياتي أيضاً. أولاً أصبح الكورنيش، المساحة العامة الوحيدة المتبقّية لنا، على بعد ثلاث دقائق من منزلي. أصبحت أمارس الرياضة على الكورنيش. لم أعد أستعمل سيارتي كثيراً وأصبحت أقضي الكثير من حاجاتي سيراً على الأقدام. عشت قبل ذلك في فرن الشباك والجعيتاوي، منطقتان مختلفتان تماماً من حيث اللون والاكتظاظ والموقع الجغرافي.
في بيت راس بيروت، صار لي لأوّل مرة جيران، ربما لأنّنا أصلاً متشابهون فكرياً، يعني أصبحت من جماعة “عملي تبولتك وتعي” أو “حطي الركوة عالنار أنا جايي” وصار لديّ أصدقاء أيضاً.
في بيت راس بيروت اجتمعت كل العناصر التي جعلتني أحبّه كثيراً لدرجة بدأت أشعر أنّ عليّ أن أحب البيوت أقل. وحين بدأت المشاكل بدأنا البحث عن بيت في المنطقة ولحسن حظي أنّي وجدت شقة في بناية ملاصقة لبنايتنا القديمة. شقة أوسع، إيجارها أرخص، مطلة بالكامل على البحر على عكس الشقة القديمة، وهادئة. فلولا ذلك لكنت خسرت كثيراً من مغادرتي الشقة. كنت خسرت كل روتيني. وليس بالأمر السهل أن نخسر روتيننا اليومي”.
الطابق الثالث ت. خ (فنانة مسرحيّة)
اختارت ت. خ. التي تسكن راس بيروت في السنوات الأربعة الأخيرة، المبنى لأنه قريب من البحر ومن شارع الحمرا ولأن أصدقاءها يسكنون المبنى. ولهذا البيت خصوصية أخرى لدى ت. لأنه أول بيت تعيش فيه مع زوجها.
ت. التي عاشت في لندن عشر سنوات، لديها شوق عتيق للبحر: “كان يهمّني حين أعود إلى لبنان أن أسكن في شقة أستطيع منها رؤية البحر حتى لو لم يكن البحر في بيروت مكاناً متاحاً لنا للسباحة فيه، ولكن كنت أرغب على الأقل في رؤيته يومياً حين آتي إلى البيت وحين أجلس إلى شرفتي”.
تتحدث ت. عن “خلطة” في راس بيروت بين الجديد والقديم والشعبي نوعاً ما، أما الشقة فلديها سحر ما مردّه إلى “السقف العالي والبلاط القديم الملوّن والهندسة الداخلية الجميلة”.
خسرت ت. كل ذلك حين غادرت البيت، خسرت أيضاً بدل إيجار الشهر الذي غادرت في بدايته والذي دفعته سلف، وخسرت كلفة الورشة التي أجرتها في البيت حين سكنته قبل أن تضطر لمغادرته بعد عامين ونصف.
ولكن مثلها مثل كارين وباسل، لم تبتعد ت. عن البيت كثيراً حين بحثت عن شقة جديدة وبالفعل وجدت واحدة في المنطقة نفسها. فمن يعيش في راس بيروت لا يستطيع العيش خارجها.
المستأجرون القدامى
قصص المستأجرين الجدد كانت متشابهة تقريباً لا سيما من حيث الدافع للسكن في راس بيروت: منطقة مختلطة صديقة للجميع ولا تقصي أحداً. ولكن هذا كلّه لا تلمسه ريما مدوّر المستأجرة القديمة التي تعتبر أنّ المنطقة تغيّرت كثيراً عن السابق ولم تعد تشبه أهلها وأصبح فيها الكثير من “الغرباء”.
الطابق السابع: ريما مدوّر (1968 ـ 2018)
سكن أهل ريما المبنى عام 1968 وبقيت هي فيه حتى خروجها في حزيران الماضي. تنحدر العائلة من حي المدوّر ـ المرفأ، ولد والدها في يافا وانتقل مع أهله إلى لبنان في العام 1952 وهم لبنانيون بحسب ريما التي تصرّ على التوضيح بأنهم ليسوا لاجئين. أمها مارونية ووالدها روم كاثوليك.
كان جد ريما قنصل فرنسا لدى العثمانيين “لأنّه كان متعلّماً ومن القلائل الذين يتحدثون الفرنسية بطلاقة”. وكان يملك الكثير من الأراضي في حي المدوّر ولكنّه خسرها لسبب تجهله ريما. أما والدها فكان مديراً للبنك العثماني في العراق وكانت هي تسكن عند جدّتها في قريطم حيث كانت تدرس في مدرسة الفرانسيسكان في المتحف. جاء أهلها إلى لبنان في العام 1968 وفتشوا عن شقة في راس بيروت قرب الجدّة وكانوا يبحثون عن شقتين صغيرتين ولكن وجدوا شقة كبيرة في بناية راس بيروت ١٩٨٠ مساحتها 220 متر مربع.
تزوجت ريما عام 1975 وسكنت مع أهلها في الشقة لأنّه كان يتعذّر في تلك الفترة البحث عن سكن في مناطق أخرى في بيروت.
عام ١٩٨٠ سافرت مع زوجها وابنتها ميا التي ولدت عام 1977 إلى الخارج هرباً من الاجتياح الإسرائيلي وعادت عام 1984، في وقت لم يغادر أهلها البناية أبداً هم والسكان من عائلة شاتيلا.
لم يكن لدى ريما أصدقاء في المنطقة بل خارجها لا سيّما في الأشرفية حيث يسكن رفاق المدرسة أو المعهد حيث درست الحضانة. وتقول إنّ عائلتها أيضاً لم تبن علاقات مع الجيران قبل الحرب، ولكنّهم اضطروا لذلك خلال الأحداث لأنه لم يعد لديهم خيار.
عدم اختلاطها كثيراً مع سكان الحي لا يعني أنّها لم تكن تحبّ المنطقة فهي تعتبر أنّها كانت تنسجم معها طبقياً حتى فترة معيّنة حين بدأت التركيبة السكانية تتغيّر في المنطقة أي مع بدء تحوّل بعض الأحياء فيها إلى أحياء شعبية واختفاء الطابع الأرستقراطي عنها. وكان لتشييد مدرسة الحريري الحكومية في المنطقة (مدرسة راس بيروت الدولية)، أثر كبير في ذلك. ولكن المحطة الأبرز في عملية التحوّل التي تتحدث عنها والدليل على أنّ المنطقة فقدت هويّتها، هي إغلاق سوبرماركت سميث في شارع السادات. ولمن لا يعرف “سميث” فهو سوبرماركت الطبقة الأرستقراطية في بيروت. فبالنسبة إلى ريما، راس بيروت التي تعرفها هي تلك التي يشتري سكانها أغراضهم من سميث.
انفصلت ريما عن زوجها سنة 1992 تقريباً، وتوفي والدها عام 2000 ووالدتها عام 2003 “قبل أن ترى ويلات البناية”، كما تقول.
قبل سنوات من بدء الورشة الجديدة، حاولت الشركة إخراج ريما من بيتها. أولى المحاولات كانت عام 2009 حين رفعت الشركة دعوى تدّعي فيها أنّ ريما لا تتواجد في البيت وأنها مسافرة ولكن أقفلت الدعوى لانتفاء الأدلّة.
عام 2016 ثمّنت الشركة الشقة وعرضت عليها 80 ألف دولار لإخلائها ولكنها رفضت. وفي أيار 2018 عرضت عليها 100 ألف دولار على أن تغادر بعد ثلاثة أيام، ثم 90 ألف لتغادر بعد أسبوعين وهو ما حصل.
لدى سؤالها عن الخسارة التي لحقت بها بعد إجبارها على مغادرة بيتها، تقول إنها لم تخسر شيئاً “ليس فقط بسبب المشاكل التي حصلت بل لأن المنطقة تغيّرت وتغيّر السكان وأصبح هناك غضب وعنف وغرباء والكثير من الشحادين في الشارع”. وتضيف “أسكن اليوم في حي هادئ في الأشرفية وأشعر بالسلام الداخلي”.
ليست ريما من النوع الذي يحب الخوض في حديث عن النوستالجيا وعن معنى البيوت والخسارات والرحيل: “لا أعيش في الماضي أعيش في الحاضر ولا أريد أن أحزن على شيء مضى. لبنان جميل ولكنه لم يعد كما كان. الناس كانت جميلة ولكن لم تعد كما كانت”.
اليوم لا يزال الدكتور شوقي الغريزي في الطابق الثالث “الشوكة” الأخيرة في عين الشركة العقارية، حيث رفع دعوى مضادّة للحصول على التعويض المناسب ويرفض المغادرة إلى حين البتّ بالدعوى أو إلى أن يحين موعد تحرير جميع عقود الإيجار القديمة في العام 2023، كما يأمل أبو ربيع. فإذا مررتم في هذه الأيام ليلاً في الشارع ستجدون البناية بحلّة جديدة ولكنها معتمة ما عدا طابقها الثالث المضاء كنافذة تطلّ على العمر السابق لبناء شيّد قبل خمسين عاماً.
مؤخراً مع اقتراب الورشة من نهايتها، رفعت الشوادر الخضراء بعد أن كانت تنزل كستار في مسرحية انتهى فيها الفصل الأول ويتم تغيير الديكور لبدء الفصل الثاني. ولكن الفرق أنّه في الفصل الثاني ستتغيّر الشخصيات أيضاً. أمّا الشخصيات القديمة، فلن يعرف أحد منها البناية القديمة وستتحوّل إلى مجموعة ذكريات ستواصل ريما رفض الحديث عنها لأنّها “لا تعيش في الماضي”.