تمّ نشر هذا النص بالفرنسية في لوريان لوجور في 30 كانون الأول 2020
إجتاحت صوَر المناطق المتضرّرة جرّاء تفجير المرفأ الوسائل الإعلامية منذ لحظة التفجير الأولى، ولعلّ العديد منها سيصبح أيقونة بصرية سياسيةً لما جرى عصر ذلك اليوم. وبالرغم من أن محطّات التلفزة توقّفت عن البث المباشر من المناطق المتضرّرة، لكن الأحياء التي تأثّرت بالتفجير مازالت تعاني – وستعاني لفترة طويلة – من الدمار الحاصل، ومن أداء الدولة، ومن أوجه القصور في الاستجابة منذ التفجير.
لقد سبق أن شهد لبنان تجارب إعادة إعمار تمثّلت أولاً بالتمويل الخارجي وتثبيت النفوذ، وثانياً باستغلال الدمار لتحريك شبكة من المصالح المرتبطة بالمضاربة العقارية وقطاع البناء، بالإضافة الى تقوية الشبكة الزبائنية للزعماء والطوائف. لم تخلق عمليات إعادة الإعمار السابقة الظروف لعودة السكان، بل على العكس، أدّت إلى تهجير واسع وبالتالي خلقت بتراً ما بين ماضي الأحياء وحاضرها.
اليوم، في ضوء ما سبق، وفي ظلّ وجود 9,000 وحدة سكنية متضررة ما زالت بحاجة للترميم أو إعادة الأعمار – من أصل 200,000 وحدة متضررة منذ التفجير– وفي إطار ما يجري من نقاشات وما يُطرح من مبادرات حول ترميم وإعادة إعمار الأحياء المتضررة من انفجار مرفأ بيروت، تبرز تساؤلات عديدة حول مخاطر قانون “حماية المناطق المتضررة ودعم إعادة إعمارها” الصادر في تشرين الأوّل 2020. فهل سيحمي القانون فعليًا السكان من التهجير ويحافظ على النسيجين الاجتماعي والاقتصادي للأحياء كما يتمّ الترويج له؟
قانون إعادة الإعمار: غياب حماية السكان وتغييبهم عن صنع القرار
يفتقد القانون إلى أي سياسة تستفيد من دروس الماضي ويعتمد مقاربة تخلو من الشقّين الاقتصادي والاجتماعي وتختزل العمران بالمباني والعقارات. اكتفى القانون بالاستناد الى ضرورة حماية حق الملكية والمبادرة الفردية في إطار النظام الاقتصادي الحر، في حين تجاهل حقوق ومبادئ دستورية أخرى لا تقل أهمية عنها، كالعدالة الاجتماعية، والمساواة أمام الأعباء العامة، والحق بالسكن، وحقوق الأشخاص المقعدين.
بموازاة وضع ضوابط على انتقال الملكية وضمّ الأراضي، لم يساهم القانون في تمكين السكان من ترميم أبنيتهم المتضررة بشكل سريع، أو إيضاح مسار تسديد التعويضات، أو وضع مسار لتأهيل الحيّز العام، أو إرساء سياساتٍ تحدّ من المضاربات في المدينة برمّتها.
كما تغيب عن القانون أي مندرجات لتعافي الأحياء الأكثر تضرّراً، وتحديداً الحق بالوصول إلى سكن ميسّر، منعاً لتهجير سكّانها وشاغليها القُدامى والجدد تمهيداً لحلول طبقات ذوي دخل أعلى مكانهم، في إطار ما يُعرف بالإحلال الطبقي العمراني Gentrification. فهو لا يتضمن أي تحفيز للتعافي الاقتصادي الاجتماعي للمناطق المتضررة أو أي خطة لإنعاش الحيّز العام. كما أنّه لم يسعَ إلى إشراك أصحاب الحقوق وتحفيزهم على إعادة بناء وترميم منازلهم ومحلاتهم.
في الرميل تحديداً، وهي إحدى المناطق الأكثر تضرّرًا، 75% من السكان هم من المستأجرين ومن أصحاب الدخل المتدني (وفقاً لدراسة للجامعة اللبنانية 2012). يرتبط ذلك بموقع شارع أرمينيا الذي استقطب تاريخياً العمّال وأصحاب الحرف من نجّارين وإسكافيين وغيرهم، منذ عشرينيّات القرن الماضي، للسكن قرب أماكن عملهم في المرفأ، أو سكة الحديد، أو غيرها.
لكن منذ العام 2006، بدأ الحيّ بجذب المستثمرين، ودخلت إليه المطاعم والحانات وراحت تحلّ مكان الصناعات القديمة. بنتيجة هذا التحوّل الاقتصاديّ، تغيّرت ملكية عدد كبير من العقارات في المنطقة وارتفعت أسعار الشقق في مار مخايل، مما أدّى إلى إخلاء العديد من السكان.
اليوم، أي بعد الانفجار، بات هؤلاء السكان مهدّدون، أكثر من أي وقت مضى، بالتهجير الدائم نتيجة هشاشة سكنهم والإطار القانوني الذي يرعى وجودهم في المدينة. فعلى الرغم من أن قانون إعادة الإعمار المذكور قد مدّد عقود الإيجار السكنية وغير السكنية في الأبنية والعقارات المتضرّرة لمدة سنة واحدة، إنما هذا يعني بأن السكان محميون من الإخلاء خلال مدة سنة واحدة فقط. وهذه مدّة غير كافية نظرًا للأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية القاسية التي تضرب المجتمع في لبنان، ونظراً للوقت الطويل الذي قد يستغرقه ترميم المباني، لا سيما إثر ضبابية وبطء مسار توزيع التعويضات. أبعد من ذلك، فإنّ تشديد القانون على قدسية الملكية الخاصة وارتباطها بحرية التعاقد يشكل عائقاً أمام ضمان الحق في السكن.
بالنتيجة، وفي ظل غياب الحماية السكنية، تتفاقم حالات الإخلاء في المناطق المتضررة من الانفجار. فبحسب التقرير الدوري الصادر عن «مرصد السكن» في استوديو أشغال عامة، والذي رصد حالات الإخلاء المتلقاة ما بين 3 أيلول و 17 تشرين الأول 2020، جرى تتبع 58 حالة تهديد بالإخلاء طالت 190 شخصًا في أحياء مختلفة من بيروت. وكان العدد الأكبر منها – 30 حالة أو ما يعادل حوالي 52% من مجموع التهديدات – في المناطق المتضررة من الانفجار. للأسف، لم يقتصر الأمر على التهديد بالإخلاء، ونُفّذ الإخلاء القسري في كثيرٍ من الحالات. ويُجبر السكان على تحمّل هذا الضرر الإضافي بعد نجاتهم من التفجير الرهيب الذي أصابهم بأضرارٍ جسديةٍ وماديةٍ ونفسيةٍ متفاوتة.
في مسح آخر أجريناه على عيّنة من حي سكني ممتدّ بين شارع أرمينيا وشارع الخازنين، تبيّن أن حوالي 42٪ من الشقق الشاغرة نتيجة الانفجار دائمة، في مقابل 58٪ منها تُصنّف انتقال مؤقّت إلى حين الانتهاء من الترميم.
والمُلفت أن الإخلاءات الدائمة حصلت مع مستأجرين “جُدد” حصراً، ترك بعضهم المأجور نهائياً بالرغم من عدم انتهاء مدة عقد الإيجار المُبرم معهم -سواء كان مكتوباً او شفهياً- بشكل رئيسي بسبب عدم قدرتهم على تحمّل تكاليف الترميم أو جرّاء الصدمة النفسية أو لأنهم لا يعتقدون أن الترميم سيحصل أصلاً. كما عبّر العديد منهم عن عدم رغبته بتحمّل متاعب عملية الترميم، خاصة وأن المالك له الحق -في ظل قانون الإيجار السيء- بطردهم بعد انتهاء أعمال الترميم لعدم رغبته بتجديد العقد أو عبر زيادة الإيجار.
تعديل القانون بهدف الحماية من الإحلال الطبقي العمراني
في ظل الهشاشة المتزايدة التي يعيشها السكان في الأحياء المتضرّرة، نقترح سلسلة من الخطوات والإجراءات التي نراها ضرورية لحماية السكان والنسيج العمراني الاقتصادي للأحياء، والتي كان يمكن أن يطرحها القانون بهدف وقف استنزاف هذه الأحياء بل ومنع الإحلال الطبقي العمراني من تغييرها بشكل كامل.
أوّلاً فيما يتعلّق بضمان تمثيل السكان، تظهر الحاجة لتشكيل أطر تمثيلية لأصحاب الحقوق والمتضرّرين لتفعيل دورهم واسترداد صوتهم في النقاش حول أولويّاتهم وهمومهم المشتركة.
ثانياً، هناك حاجة لضمان الحماية السكنية وإنتاج السكن الميّسر. فنظراً لنسبة الإخلاءات والتهديدات التي تم رصدها في المناطق المتضررة، لا بد من تحديد آلية تطبيق بند تمديد عقود الإيجارات السكنية وغير السكنية الذي يحمي من الإخلاء، بالإضافة الى تمديد العقود طيلة فترة إعادة التأهيل والترميم. ونظراً لنسبة الشغور المتفاقمة ما بعد الانفجار، لا بدّ من منح حوافز للإشغال، وذلك عبر إعطاء أولوية لترميم الشقق والمباني الشاغرة مقابل تأمين سكن ميّسر أو أماكن إجتماعية للأحياء.
ثالثاً، فيما يتعلّق بالحدّ من المضاربات العقارية، لا بد من فرض ترميم الأبنية المتضررة بأسرع وقت منعاً لاستغلال انهيارها من قبل المطوّرين العقاريّين، بالإضافة إلى إلغاء امتيازات المستثمرين والشركات الكبرى وضبط قدرتها على التحكم بالأسعار.
رابعاً، إزالة العوائق القانونية المرتبطة بتراخيص الترميم، عبر تسهيل عمليّة الحصول على تراخيص لترميم المباني المتضررة من خلال إعطاء المستأجرين الحق بالاستحصال على الرخص، وتسريع البت بالتراخيص من قبل البلدية والمحافظ، وتسريع عمل المديرية العامة للآثار في الكشف على المباني التراثية وتقييم وضعها.
من الأساسي أن يتوقّف تهجير السكان من أحيائهم والاستمرار بالسماح لموجات الإحلال الطبقي العمراني بتغيير شكل المدينة وعلاقة سكّانها بها. وبالرغم من أن النسيج العمراني الاجتماعي الذي نفقد بفقداننا لهذه الأحياء يُبنى بشكل بطيء ومعقّد، لكن حمايته ممكنة بفضل سياسات تنحاز لمصلحة السكّان والأحياء المهمّشة، بدلاً عن المطوّرين العقاريّين والشركات الكبرى.