بتاريخ ١٩ أيار ٢٠٢٣، وأثناء جولة استعراضية لمحافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبّود في عدد من أحياء العاصمة، وبقرارٍ مفاجئٍ ولحظيٍّ، ودون أي سابق إنذار، أمَرَ بإخلاء مبنى سكني من كل سكانه وإقفاله بالشمع الأحمر مع احتجاز كافة مقتنيات السكان بداخله ومنعهم من الولوج إليه، ممّا أدّى إلى تشريدهم من منازلهم دون توفّر البدائل لهم.
فما هو هذا المبنى، ومن هم سكّانه، وعلى أي أُسس اعتمد المحافظ لاتّخاذ قراره الجائر هذا؟
يُطلق على المبنى تسمية “مبنى الدنا” نسبةً لمالكَيه – وهما أخوين من عائلة الدنا – وهو يقع في منطقة المزرعة العقارية، زقاق محمد أبو عزّ الدين المتفرّع من شارع الأوزاعي في محلة البربير. يتألّف المبنى من ثلاث طوابق، إضافةً إلى طابق أرضي وآخر مضاف على السطح. وبحسب سكان الحي، كان يقطنه ما يقارب الـ٧٠ فرداً ، معظمهم عمال شباب يسكنون الشقق بالشراكة، فضلاً عن عائلتين تسكنان الطابق الأرضي وشقة السطح، وهم جميعهم من المُستأجرين. اتّضح لنا بأن السكان يعملون في وظائف صغيرة، وبعضهم يتّخذ جمع المخلّفات البلاستيكيّة والتنك من حاويات النفايات بغية إعادة بيعها، عملاً له، ما أزعج بعض الجيران في الحيّ، وجعلهم يتقدّمون بشكويين ضد سكان المبنى حول قلّة النظافة والضجيج الذي يسبّبونه. لا تفاصيل عن أوضاع جميع سكان المبنى وظروفهم ومكانهم الحالي بعد الإخلاء، بينما يؤكد ساكنان- ينامان حالياً في مستودع قناني وغالونات مياه تابع للسوبر ماركت الذي يعملان داخله – بأنه لم يكن لأحد من السكان مسكن بديلٌ يلجؤون إليه.
تشريد سكّان بحجّة وجود «مؤسسة خطرة»
بعد الاطّلاع على نص القرار، يظهر أن المحافظ بنى حجّته مستنداً على ثلاث مراسيم صادرة متعلّقة بالمؤسسات المصنّفة خطرة، ومضرّة بالصحة، ومزعجة، وعلى اقتراح مدير مصلحة المؤسسات المصنّفة بالتكليف. ونلاحظ أن المحافظ كلّف مصلحة المؤسسات المصنّفة بتنفيذ القرار بمؤازرة من فوج حرس بلدية بيروت.
في الواقع، وبحسب المشاهدات، يقتصر عمل سكان مبنى الدنا في تجميع البلاستيك والتنك في إحدى المساحات المشتركة في المبنى ولا يرتقي إلى مستوى عمل مؤسّسة، وبالتالي لا تفسير منطقي لاعتبار المبنى «مؤسسة مصنّفة خطرة ومضرّة بالصحة». يؤكّد على هذا الأمر أحد المراسيم الثلاثة التي استند عليها المحافظ في قراره، إذ يحتوي المرسوم على جدول يصنّف المؤسسات الخطرة والمضرّة بالصحة العامة والمزعجة إلى ثلاث أصناف بحسب المخاطر، ويُلاحَظ عدم وجود «جمع المواد القابلة للتدوير» أو أي عبارة مشابهة ضمن الفئات المشار إليها في الجدول. أمّا إذا سلّمنا جدلاً بأن المحافظ اعتبر المبنى «مخزناً للمواد البلاستيكية» لا يلتزم بالتدابير اللازمة لتلافي المخاطر والمحاذير – سواء كان للأمن أو طيب الهواء أو راحة الجيران أو الصحة العامة – فوجب في هذه الحالة وبحسب المرسوم المذكور إيقاف عمل المخزن وإغلاقه، لا إخلاء السكان.
إذاً، حتى إن كانت مسؤولية المحافظ إيقاف عملية تجميع المخلّفات في المبنى خدمةً للمصلحة العامة، من واجبه أيضاً التنبّه إلى الفرق بين إيقاف عملية تجميع المخلّفات في المبنى أو إقفال مؤسسة، وبين الإخلاء التعسّفي للسكان من مساكنهم وتشريدهم، في انتهاك فاضح للحقّ في السكن.
زيدي\زِد على ذلك، أن أحد المراسيم الثلاثة التي استند إليها المحافظ تشير إلى أنه «إذا كان استثمار محل صناعي غير داخل في بيان المحلات المصنّفة من شأنه أن يُحدث أخطاراً أو يلحق محاذير هامة – سواء كان بالأمن أو بطيب الهواء أو بالنظافة او براحة الجيران أو بالصحة العامة – فوجب أن يُنذَر صاحب المصنع بوجوب اتخاذ التدابير اللازمة لإزالة ما تحقّق وجوده من أخطار ومحاذير. وإذا امتنع صاحب المصنع عن القيام بما طُلب إليه في المهلة التي عُيّنت له، فيحقّ أن يوقَف مؤقّتاً عن العمل». تؤكّد هذه المادة بوضوح أنه وإن كان هناك ما يُزعج الجيران أو يضرّ بالصحة العامة، فهناك آلية قانونية يجب اتّباعها تبدأ بإرسال إنذار وإعطاء مهلة قبل إتخاذ أي قرار بإيقاف العمل.
في حالة مبنى الدنا، وإن افترضنا أن المبنى هو محل صناعي أو مؤسسة صناعية، على خلاف حقيقته، يكون المحافظ قد انتهك المرسوم الذي استند عليه بعدم اتّباعه آلية التبليغ المنصوص عليها، إذ لم يتمّ إنذار أيّاً من مالكَي المبنى وكذلك أياً من السكان قبل عملية إقفال المبنى بالشمع الأحمر، ولم يتمّ إعطاءهم أية مهلة.
إخلاء غير مبرّر بحجّة السلامة العامة
يذكر نصّ قرار المحافظ أن مبنى الدنا لا يستوفي شروط السلامة العامة والحماية من المخاطر والحريق، ويستخدم هذه الحجة ضمن الحجج لإخلاء المبنى، ومن هنا تتفرّع إشكاليتان.
الإشكالية الأولى إجرائية، تتعلّق بكيفية تطبيق الإخلاء في حال كان المبنى مهدداً بالانهيار ويجب هدمه كي لا يشكّل خطراً على السلامة العامة. فوفقاً للمادة الثامنة عشر من قانون البناء الذي يستند إليه مرسوم السلامة العامة، يمكن للبلدية إخلاء مبنى من سكانه لكن يُشترط أن يكون البناء أو جدرانه أو مكوّناته في حالة تُنذر بانهياره وتشكّل خطراً، وأن يكون المالك قاصراً عن القيام بواجباته في صيانة المبنى بسبب عدم قدرته على إجراء التقوية اللازمة أو عدم رغبته في ذلك، وبناءاً على ذلك، يتعيّن هدم المبنى. ومع أن إمكانية الإخلاء لغاية الهدم ممكنة بحسب القانون، فإن القانون يحدّد شروطاً وآليات يجب الالتزام بها لتنفيذ قرار مماثل. فإذا افترضنا أن مبنى الدنا هو فعلاً مبنى معرّض للانهيار وبالتالي يجب هدمه، كان على المحافظ والجهات المنفّذة لقرار الإخلاء اتباع هذه الشروط. يجب أوّلاً أن يُتّخذ قرار الهدم استناداً إلى تقرير من الدوائر الفنية يعتمد على تقرير من مهندس خبير محلّف قد قام بفحص البناء بالوسائل والتقنيات المناسبة. كما يجب إبلاغ مالك المبنى وسكّانه مسبقاً بقرار الهدم ومنحهم مهلة تتراوح بين خمسة عشر يوماً وشهرين من تاريخ الهدم والإخلاء. ويتمّ إعلام المالك بقرار الهدم عن طريق إرسال إنذار له، وإذا لم يتلقَّ الإنذار لأي سبب كان، يجب إلصاق نسخة من الإنذار على المبنى المطلوب هدمه ونسخة أخرى منه على باب مركز البلدية أو مركز المحافظة. أمّا في حال وجود ضرورة قصوى لهدم المبنى وفقاً لتقرير من الدوائر الفنية استناداً إلى تقرير من مهندس محلّف، يمكن تقليص مهلة الإنذار إلى يوم واحد فقط، وحينئذٍ يقتضي ذكر هذه المهلة في إنذار الهدم.
في حالة مبنى الدنا، لم يطلب المحافظ فحص المبنى من قبل أي مهندس محلّف، ولم يتلقَّ تقريراً حول حالته. كما لم يتمّ إبلاغ المالك أو أيٍّ من سكان المبنى بوجود خطر أو تهديد، ولم يتمّ تقديم أي اقتراحات للأعمال اللازمة ودرجة العجلة في تنفيذها حتى يتمكّن المالك من اتخاذ التدابير اللازمة بعد التوصل إلى اتفاق مع سكان المبنى. أضِف/ي إلى ذلك أنه لم يُرسل إنذاراً مسبقاً للسكان بقرار الإخلاء، ولو قبل يومٍ واحد. هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنه، واستناداً إلى قانون البناء، يتم إجراء عمليات الإخلاء بغاية الهدم المباشر، وذلك لأن المباني المهدّدة بالانهيار لا تشكّل تهديداً لقاطنيها فقط، بل تشكّل أيضاً تهديداً للمحيط والمارّة. وعلى الرغم من ذلك، نلاحظ اليوم، وبعد مضي أكثر من ثلاثة أسابيع على عملية الإخلاء، أنّ البلدية لم تنفّذ عملية الهدم. وهذا الأمر غير مستغرب، لأن الحجّة المسندة إلى ذلك تبدو برأينا باطلة.
ارتكب المحافظ إذاً مخالفات بقراره إغلاق مبنى الدنا وانتهك بوضوح مرسوم السلامة العامة، وقانون البناء، وآليات الإخلاء المحدّدة فيه، وشرّد السكان بقرار جائر.
أمّا الإشكالية الثانية، فهي أنّ الشروط المحدّدة في مرسوم السلامة العامة (الذي صدر عام 2005) لا تراعي آليات تطبيق هذه الشروط في الأبنية القائمة قبل صدوره ولا تحدّدها، وبالتالي، أبقى المرسوم آلاف المباني القديمة والأحياء دون أي آلية لضمان السلامة فيها.
أمام هذا الخلل التشريعي، وفي غياب إحصاء علمي حول سلامة الأبنية القديمة في بيروت، تشكّل خطوة المحافظ في إخلاء هذا المبنى بالذات خطوة استعراضية، تثير التساؤلات حول المعايير والآليات التي تم اعتمادها لاختيار هذا المبنى من بين العديد من المباني ذات الأوضاع المشابهة.
السكان السوريّون مستهدفون بشكلٍ خاصٍ
«المبنى مشغول من قبل أشخاص من التابعية غير اللبنانية» عبارة تظهر عند قراءة أسباب اتّخاذ المحافظ لقراره. سبب لا مبرّر له سوى أنّه استكمال للحملات العنصرية الموجّهة ضدّ السوريين، لإغلاق الأبواب في وجوههم وطردهم من البلاد. إذ يتزامن هذا القرار مع قرارات تمييزية وقمعية أخرى يتّخذها مؤخراً الجهاز الحاكم في لبنان، كاقتراح القانون المعجّل المكرّر الذي قدّمه نائب القوات اللبنانية فادي كرم والذي يرمي إلى «منع أي شكل من أشكال الدمج أو الإندماج الظاهر أو المقنّع للنازحين السوريين الموجودين في لبنان جرّاء الثورة السورية»، أو قرار محافظ بيروت الإشكالي الذي يحظر على اللاجئين السوريين دخول حرش بيروت في أيام محددة. ويأتي اليوم في السياق عينه قرار إخلاء مبنى الدنا دون منح سكّانه السوريين أي مهلة، أو إعطائهم ولو فرصة لاستلام أمتعتهم الشخصية التي حُجزت داخل المبنى بعد إغلاقه بالشمع الأحمر، بتصرّف ميليشياوي أكثر منه قانوني. تفاصيل قرار المحافظ المقلقة لا تنتهي عند هذا الحد، إذا أوضح سكّان المباني المجاورة، مصادرة فوج حرس بلدية بيروت داخل مقرّ البلدية، الأوراق الثبوتية لقاطني مبنى الدنا، وذلك بالرغم من كون معظمها أوراقاً نظامية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فوج حرس البلدية، باتخاذه صفة الضابطة العدلية، يقوم بحجز أوراق اللاجئين والأجانب إذا تبيّن أنها غير نظامية، لكن لا مبرّر لحجزه الأوراق إذا كانت نظامية، وبالتالي يكون قد اقترف مخالفة قانونية في حالة مبنى الدنا.
إنّ هذا القرار يشير بوضوح إلى التمييز العنصري ضد السوريين، في خطوة تُضاف إلى الحملة التحريضية الواسعة التي من شأنها تحميل السوريين كامل المسؤولية تجاه الأزمة التي نعيشها. لا بل يشكّل القرار أيضاً نبذاً لمفقّري المدينة عموماً، ويجعلنا نتساءل: هل يريد المحافظ تحويل بيروت إلى مدينة تكره ناسها؟