لعبة تقاذف مسؤوليات الإيواء مسرحها موقف سيارات في صيدا

المصدر:  بحث ميداني أُجري في صيدا بين 15-25 تشرين الأول 2024
البحث الميداني: محمد الأمين

 

لأكثر من شهر افترش حوالي 700 نازح سوري هاربين من القصف الإسرائيلي على قرى الجنوب اللبناني التي كانوا يقطنونها، موقف سيارات وباصات قرب ساحة النجمة وسط مدينة صيدا، علّهم يحتمون تحت ظلال مظلّة الموقف.

نزحت مع عائلتي كما نزح الناس من الغازية لأن كان في قصف حد بيتنا، وبقيت فترة في محيط مبنى البلدية في صيدا علّها توجّهنا إلى مركز إيواء، لكن بعد التواصل مع البلدية أعلمتنا أن الموضوع بيد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون النازحين. وبعد التواصل مع المفوضية، أُعلمنا أن لا حلول في الأُفق لنا“، هذا ما رواه لنا1بحث ميداني أُجري في صيدا بين 15-25 تشرين الأول 2024. ياسر (اسم مستعار)، أحد النازحين السوريين في الموقف. بعد أن تخلّى الجميع عنهم، كان الخيار الوحيد أمامهم هو اللجوء إلى الموقف.

فمنذ 23 أيلول 2024، تاريخ النزوح الكبير من الجنوب مع تسارع العدوان الإسرائيلي، وصل إلى صيدا آلاف النازحين2بحسب رئيس بلدية صيدا في اجتماع عقده في 10 تشرين الثاني، وصل عدد النازحين إلى نحو 33000 ضمن نطاق صيدا: أكثر من 8000 في مراكز استضافتهم و13000 من المسجّلين خارج المراكز، ونحو 12000 من غير المسجلين.، وعملت البلدية على توزيعهم على مراكز المدينة التي تمّ تخصيصها رسمياً للإيواء. استطاع 440 نازحاً من الجنسية السورية اللجوء إلى المراكز، 334 منهم استقبلتهم وكالة “الأونروا” في المراكز التي فتحتها في المنطقة3من بينهم 19 سوريا في مدرسة نابلس، و120 في مدرستي بيت جالا وبيرزيت، و195 في مركز التدريب في سبلين (بحسب مقال وفيق هواري على موقع الخبر بعنوان “عائلات سورية نازحة… الشارع ولا العودة إلى سورية“.، فيما استقبلت المراكز المعتمدة من قبل الدولة اللبنانية 106 نازحاً سورياً4بحسب المهندس مصطفى حجازي، مدير خلية المخاطر وإدارة الكوارث والأزمات في بلدية صيدا. فقط. أما المئات الآخرون فبقوا في الشارع، والكثير منهم في موقف الباصات المذكور.

لماذا لم تستضِف غالبية مراكز الإيواء السوريين؟
بات السبب معروفاً اليوم. إذ أن خطة الطوارئ التي وضعتها الحكومة استجابةً للعدوان استبعدت غير اللبنانيين من مراكز الإيواء، حيث أشارت إلى أن التعاطي مع “الفئات السكانية الأخرى من غير اللبنانيين” سيكون بالتعاون مع منظمات الأمم المتحدة المختصة، تحديداً الأونروا للفلسطينيين، ومفوضية اللاجئين UNHCR للسوريين ومنظّمة الأمم المتحدة للهجرة للعمال الأجانب. وجرى إيعاز مستمرّ من قبل وزراء متفرّقون في الحكومة، بمن فيهم وزير التربية والتعليم، لإدارات المراكز بعدم استقبال السوريين أو حتى إخلائهم.

المفوضية تخلف بوعودها: إخلاءات دون بدائل

في صيدا بشكلٍ خاص، وصل تبليغ شفهي من مسؤولين في وزارة التربية إلى المدارس لإخلاء السوريين منها. ويُقال إن هذا الطلب تمّ بموافقة مفوضية اللاجئين، التي اعتبرت أن المدارس اللبنانية يحقّ لها اتّخاذ القرارات التي تراها مناسبة، مع وعود بأن تؤمّن المفوضية مأوى للنازحين بعد الإخلاء، أو تدعمهم في تأمين المأوى من خلال دفع بدلات الإيجار بعد بحثهم بأنفسهم عن منازل للإيجار.

وبحسب المهندس مصطفى حجازي (مدير خلية المخاطر وإدارة الكوارث والأزمات في بلدية صيدا)، فإن الإخلاءات التي تمّت استندت إلى هذه الوعود، وحصلت بقبول النازحين، بدون أي مشاكل أو طرد أو استعمال للقوة، رافضاً أن تكون البلدية تقوم بالتمييز في الإيواء، ومعيداً التذكير بأنها لو كانت تميّز لما كانت استقبلت 106 نازح سوري\ة في مراكز المدينة. وأشار إلى أن ما حدث في مدرسة “أنجليك صليبا” الرسمية يعتبر دليلاً على ذلك، حيث رغم أن بعض السوريين “تسرّبوا” إلى المدرسة أي دخلوها دون التنسيق مع البلدية أو تقديم بياناتهم – وهو شرط أساسي لكي تستطيع توزيعهم بما يتناسب مع حاجاتهم واستيعابية المدارس وتجهيزاتها – إلّا أن البلدية عرضت عليهم نقلهم إلى مركز آخر ولم تقم بإخلائهم، فاختاروا البقاء في المدرسة، حتى وإن كانوا اضطرّوا للبقاء في ملعبها. وما لبث أن تمّ تهديد فروع “القرض الحسن” في لبنان، بما فيها فروع صيدا، ما دفع البلدية إلى اتّخاذ قرار في 20 تشرين الأول يقضي بإخلاء مؤقت لمركزي إيواء في محيط هذه الفروع، بما في ذلك مدرسة “أنجليك صليبا”، من جميع فئات النازحين سواء اللبنانيين أو غير اللبنانيين. وعند إعادة النازحين إلى المراكز هذه بعد زوال الخطر، تبيّن أن بعض السوريين منهم غادروا المدينة، بينما لجأ آخرون إلى الموقف المذكور، لينضمّوا إلى من كان قد لجأ إليه من قبل.

في المحصّلة، إن لجوء السوريين إلى الموقف، سواء بسبب عدم استقبالهم في مراكز الإيواء من الأساس، أو بعد إخلائهم منها، يعدّ نتيجة لإخلال المفوضية بوعودها وتقاذف المسؤوليات بين الجهات المعنية، وفقاً لما يراه النازحون وأهالي المدينة. وإذ لا ننكر ذلك، فإننا نُرجع السبب الرئيسي إلى استبعاد غير اللبنانيين من الخطط الحكومية بشكل عام،، بما في ذلك السوريين/ات والعاملين/ات الأجانب، إذ لا يتم تضمينهم في الإحصاءات المتعلقة بالنزوح، ولا في خطط الطوارئ لإيوائهم، حيث ركّزت الخطة الحكومية على تلبية احتياجات النازحين اللبنانيين والمجتمع المضيف فقط، مما يظهر إقصاءً واضحاً لهذه الفئات.

نفوذ المالك وقدسية الملكية الفردية

ظلّ النازحون السوريون إذاً عالقين في موقف السيارات، دون أي حلّ لإيوائهم. تردّدت معلومات بأن أحد النازحين أقنع سبع عائلات بالعودة الى سوريا، لكن معظم المقيمين في الموقف أكّدوا عدم رغبتهم بالعودة. وقالت إحدى النازحات في هذا الإطار “إذا لم يجدوا حلاً لنا ليخرجونا من هنا، فلا حلّ سوى البقاء في الشارع او عند شاطىء البحر، لأننا لن نعود إلى سوريا”.

لاحقاً، أبلغت المفوضية البلدية بأنها اتّفقت مع وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار على تأمين مركزي إيواء في البقاع يستوعبان ألف عائلة لنقل العائلات المقيمة في الشوارع ومن بينهم من في صيدا5مقال وفيق هواري على موقع الخبر بعنوان “عائلات سورية نازحة… الشارع ولا العودة إلى سورية“.، وتمّ التنسيق بين البلدية والمفوّضية على إرسال من في شوارع المدينة إلى مراكز في الشمال، فأُرسلت دفعة أولى، وقبل ساعات قليلة من نقل الدفعة الثانية المؤلّفة من شاغلي الموقف، استهدف الإسرائيليون بيروت، فتمّت إعادتهم إلى الموقف.

وبقي الأمر على حاله لغاية 18 تشرين الأول حين وجّه محمد زيدان، مالك عقار الموقف، رسالة إلى بلدية صيدا يطالبها فيها بإفراغ العقار من النازحين، بموازاة رفع عدد من السكان المقيمين حول العقار كتاباً إلى البلدية يلفتون نظرها إلى تدهور ما أسموه الوضع الصحي والبيئي في المنطقة6مقال وفيق هواري على موقع الخبر بعنوان “عائلات سورية نازحة… الشارع ولا العودة إلى سورية“.، بعد رفع شكواهم إلى زيدان. وقد اشتكى هؤلاء من الروائح الكريهة، وتراكم النفايات، والضجيج ليلاً بسبب الازدحام وتواجد الدراجات النارية على الأرصفة… فيما استندت رسالة زيدان بشكل أساسي إلى قدسية الملكية الخاصة، وأنه كمالك للموقف وحده من يحقّ له تحديد من يشغله، ولفت إلى موضوع التدهور الصحي والبيئي من حيث عدم توفّر الحمامات ولا المياه وانتشار الروائح الكريهة.

كان واضحاً أن البلدية لا تريد الدخول في هذا الصراع وتحمّل مسؤولية طرد النازحين أو مواجهة زيدان، وهو رجل أعمال ومن أبرز الفاعلين على الساحة الاقتصادية والعقارية وحتى السياسية في المدينة. إذ أشار حجازي إلى أن البلدية لن تتّخذ قراراً من تلقاء نفسها بل أحالت الكتابين إلى محافظ الجنوب للبتّ بالأمر. وقال أحد النازحين أن عدداً من الأشخاص اتصلوا بهم وطلبوا منهم إخلاء الموقف باسم البلدية، إلا أن رئيس بلدية صيدا حازم بديع نفى أن يكون المجلس البلدي قد طلب الإخلاء قبل تأمين البديل7مقال وفيق هواري على موقع الخبر بعنوان “عائلات سورية نازحة… الشارع ولا العودة إلى سورية“..

تساؤلات حول مصير النازحين

تخلّت إذاً كل من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وبلدية صيدا عن مسؤولياتهما تجاه النازحين السوريين الذين تشرّدوا في الموقف لأكثر من شهر، مع محاولة البلدية تبرير موقفها وإظهار نواياها الحسنة بشكل متكرّر. أخيراً، أصدر المحافظ قراراً بإخلائهم جميعاً وتفريغ الموقف بعد ضغط من المالك صاحب النفوذ، مشيراً إلى وجود مراكز أُنشئت من قبل جمعية فرح العطاء في بيروت يمكنهم اللجوء إليها. ومع تكرار ذكر هذه المراكز في كل عملية إخلاء تجري مؤخّراً، كتلك التي حصلت على كورنيش الرملة البيضاء، تُثار تساؤلات جدية حول مصير هؤلاء النازحين. هل يتم نقلهم فعليًا إلى هذه المراكز؟ وهل تستطيع هذه المراكز استيعابهم وتقوم باستقبالهم دون تمييز؟ أم أن ذكر هذه المراكز هو مجرّد حجّة لتبرير عمليات الإخلاء القسري للسوريين، في استمرار حملة السلطات اللبنانية الممنهجة لطردهم وترحيلهم؟

ما حصل في صيدا يظهر بوضوح كيف أن الحرب وأزمة النزوح تُستغلّان لتحقيق مصالح سياسية ضيقة. في حين من المهم اليوم أمام تهديد الموت، إلى جانب مطالبة الجهات الدولية المعنية بتحمّل مسؤولياتها، مراجعة الخطط الحكومية وتحديثها بحيث لا يتمّ تقييد حقّ الوصول إلى السكن ومراكز الإيواء بناءً على الجنسية، وتُتّخذ إجراءات ملموسة لضمان حصول اللبنانيين/ات وغير اللبنانيين/ات النازحين على المأوى والمساعدات المنقذة للحياة دون تمييز.

المراجع:

إدارة الأراضي والتنظيم المدني السكن قضاء صيدا لبنان محافظة جنوب لبنان
 
 
 

النازحون السوريون، بين خطة طوارئ تستبعدهم ومفوضية تتجاهلهم

في وسط مدينة صيدا، استقرّت بعض العائلات السورية المهجرة من الجنوب في موقف سيارات بسبب استبعادها من خطة الطوارئ اللبنانية استجابةً للحرب. ففي ظلّ تقاذف المسؤولية بين البلدية ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ...

بلدية بيروت تزيل خيم النازحين في الرملة البيضاء باستخدام القوة ودون ضمان البدائل

أقدمت القوى الأمنية صباح الخميس 31 تشرين الأول على إزالة الخيم التي كان يسكنها أكثر من سبعين نازحاًً/ة في رملة البيضا، على أن يتم نقلهم إلى مركز إيواء جديد في منطقة الكرنتينا. ألّا ...

نداء بشأن إشغال النازحين المساحات العامة

مع توسع نطاق الحرب وزيادة موجات النزوح بشكلٍ متسارع، برز دور المساحات العامة المفتوحة كالشوارع، الحدائق، الساحات العامة، الكورنيش البحري، والشواطئ مع توّجه عدد كبير من النازحات/ين إليها في الفترات الأولى من النزوح …

الحق في السكن: إجراءات فورية من أجل توفير الإيواء العادل

وصل العدد الإجمالي للنازحات/ين في تشرين الأوّل 2024 إلى أكثر من مليون وثلاثمائة ألف شخص، نتيجة الحرب الإسرائيلية. ورغم أن الحكومة اللبنانية كانت قد وافقت على "خطة طوارئ وطنية" في تشرين الثاني 2023، ...