في قلب الرملة البيضاء في بيروت، وعلى العقار 4199 المصيطبة، يقف مبنى “Gruyère”، بواجهته المزيّنة بفتحات دائرية مميّزة، في انتظار مصير الهدم القريب من قبل المالك الجديد للعقار الذي يتطلّع للتّخلص من هذا التراث المعماري الحداثي بهدف التطوير العقاري.
صمّم المبنى عام 1964 المعماري الأردني فيكتور حنّا بشارات، كمبنى سكنٍ سياحيٍّ تحت اسم “سميراميس” واحتوى 21 شقة مفروشةً، قبل أن يتحوّل خلال السنوات اللاحقة، مع تبدّل مالكيه، إلى مبنًى سكني تقطنه عشرات العائلات بالإيجار. وبات يُعرف حينها بمبنى “كوجاك-جابر” نسبةً لمالكيه.
شدّت واجهة المبنى الرئيسية لعقود الناظر إليها، وانتشرت صورها في عددٍ من مجّلات العمارة والكتب والمُلصقات والمواقع الإلكترونية، إذ تتميّز هذه الواجهة بوجود 42 فتحة دائرية كبيرة قطرها 3 أمتار تواجه النوافذ والشرفات، مع وجود فتحات بيضاوية أصغر تكشف عن الأرضيات والجدران الجانبية التي تفصل بين الشقق. وللمبنى تأثير منظوري يضفي وهماً بصرياً، فعندما يتمّ النظر إلى الأعلى، تتحوّل الفتحات البيضاوية إلى شكل دائري، وتتحوّل الفتحات الدائرية إلى فتحات بيضاوية أفقية.
بالإضافة إلى كونه جزءاً من الذاكرة البصرية للمدينة، فإن هذا المبنى يحوي منزل المفكّر الماركسي حسين مروه ومنزل ابنته هناء التي كانت تساعد في أبحاثه، وأصبحت هي وعائلته الشاهد على كتاباته واستشهاده في هذا المنزل. وهو ما يذكّرنا بدور وزارة الثقافة والبلدية، بالحفاظ على بيوت المفكّرين\ات كجزء لا يتجزّأ من الذاكرة الثقافية الفكرية والتحررية للمدينة.
في عام 2021، عُرض المبنى للبيع في حين كانت لا تزال تسكنه 12 عائلة. واليوم، تمّ البيع إلى مالك جديد لم يتمّ التأكّد من هوّيته بعد إذ لا تزال عمليات القيود العقارية مستمرّة، إنّما يُشاع أنه مطوّر عقاري ذو نفوذ. ولكن للأسف، من المؤكّد أن هذا المالك الجديد يريد هدم المبنى بالكامل بعد أن أخلى معظم السكان من شققهم ويفاوض محاموه، حالياً، من بقي منهم على الإخلاء. إذ يقاوم سكان خمس شقق لا زالت مسكونة في المبنى ضغوطات المالك، وجميعهم من المستأجرين القدامى الذين سكنوا المبنى لأكثر من ٣٠ سنة، تحوّل خلالها المبنى إلى مركز حياتهم اليومية ومساحة للتفاعل والتواصل مع الجيران والمجتمع المحيط. بالإضافة إلى ذلك، يرفض مُستأجرو المحلات التجارية على الطابق الأرضي، والذين يدفعون إيجاراتهم بموجب قانون الإيجارات الجديد، مغادرة محلاتهم وإغلاق مصادر رزقهم.
إذاً، مبنى كوجاك-جابر، بيت أحد أكثر مفكّري المنطقة شهرةً، وأحد رموز العمارة الحداثية في بيروت، وسكّانه، ومستخدميه تحت التهديد. فالهدم – الذي بات سياسة تُمارس لعقود في بيروت – يؤدي الى خسارة فادحة ليس فقط للقاطنين، ولكن أيضاً للمجتمع بأكمله، من حيث بتر العلاقة بماضي المدينة والحق في تشكيل الذكريات الفردية والجماعية. وأمام تهديد الهدم المحتمل، يكون من واجبنا الجماعي، ومن واجب المدافعين عن القيمة الاجتماعية والثقافية للمدينة، حماية هذا المبنى ومن تبقى من سكانه.
فإلى متى نعطي المطوّرين العقارييّن الحقّ الكامل في تحديد كيفيّة استخدام عقاراتهم وبالتالي في تحديد تاريخ مدينتنا وما يبقى من ثقافتنا العمرانية؟ إلى متى نسمح لمالك مبنى الحقّ في هدم مبناه أو تركه شاغراً؟ هل تعلو الحقوق الفرديّة على الحقوق الجماعيّة؟